(باب السنجة) والأسلوب الادهاشي

ثقافة 2021/07/07
...

 علوان السلمان  
 
النص السردي.. بنية تركيبية خالقة للرؤية الإبداعية التي هي القدرة على التعبير والتصوير وانتاج عوالم تتناغم فيها الرؤى.
وباستحضار المجموعة القصصية (باب السِنجة) ـ الذي هو أحد ابواب هيت (باب الغربي وباب الشرقي وباب السور وباب السنجة باب الدخول الى مدينة هيت قديماـ التي نسجت عوالمها الجامعة ما بين النص القصير والقصير جدا أنامل منتجها القاص وسمي رسومي الهيتي.. واسهم الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق على نشرها وانتشارها.. كونها اعتمدت بناء سرديا لم تعد وظيفته اعادة انتاج الافكار بل تتعداها الى تعميق الرؤية واقتناص اللحظة المنبثقة من بين ثنايا الحياة اليومية.. فضلا عن توظيف لغة موحية بألفاظها استثمرت أكثر جماليات اللقطة المشهدية من وصف وحركة سردية وبنية حدثية وانتقالات زمكانية مما ساعد على تماسك الأفكار وترابط النسيج البنائي للنص.. ابتداء من العنوان النص الموازي paratexe والعتبة التي تحيط بالمتن.. فضلا عن انه مدخل موحٍ ومفتاح اجرائي للتعامل مع النص في بعديه الدلالي والرمزي.. مع تداخله والبعد النفسي المقترن بالذاكرة متوزعا بين فضائين: أولهما مكاني والآخر دلالي.
(التفت خلفه لم يشاهد أحدا في قاعة العرض لقد غادرها الجميع.. كانت يداه ترتعشان مثل غصن شجرة هزيلة في يوم عاصف.. وجهه غرق في صفرة باهتة ولا أحد في القاعة ليسأله.. وماذا سيسأل؟.. أحس أن وجعا في أعماق روحه يتحول الى جحيم مدمّر يتأجل فعله بسبب التفاؤل المبهم الذي أحاط نفسه به.. حين بدا الخوف يتسلل الى أعماقه أعتقد أن من المناسب أن يغادر القاعة من دون أن يلقي نظرة أخيرة الى لوحته غير المحتملة.. عندما واجه فضاء الشارع.. كانت المدينة قد بدأت ممارسة ليلها وهي غير مبالية بالذي حدث او يحدث، أما هو فقد انخطف سريعا في الشارع العريض المزدحم بالسيارات والذي ابتلعه بلا ضجة..).
 فالنص يعتمد الحكاية في ترتيب الأحداث وتفاعلها وتناميها بخطابها السردي الذي يتسم بواقعيته المتميزة بالحركة مع اتساع مساحة المكان البؤرة الثقافية الراصدة للموقف الاجتماعي.. لذا فالمنتج يمارس طقوس الارتقاء في جملته الايحائية ذات النزعة السردية المكثفة.. الموجزة العبارة.. الموسومة بالحركة والتوتر الدرامي من أجل الارتقاء بالمشهد النصي الذي يشتغل على سايكولوجية الشخصية انطلاقا من معطياتها وسلوكها النفسي وتحولاتها.. فضلا عن أنه يستنطق المكان بصفته دالا معرفيا شكل بؤرة مركزية تجتمع حولها خيوط النص وتمنح نسيجه تماسكا ووحدة موضوعية تؤطر عوالمه من خلال سرد المواقف المتوالدة من تفجير الفعل الدال على الحركة.
(كنت على وشك الانتهاء من وجبة الطعام الموضوعة أطباقه أمامي حين أخبرني أحد عمال المطعم ان شخصا ما قد دفع حسابي، واشار اليه بيده وهو يغادر المطعم في طريقه الى الحافلة التي تقلنا معا باتجاه العاصمة.. استطعت أن أتبين ملامحه وأيقنت أنه الشخص الذي كان جالسا قبالتي في المطعم، وقد شاهدته مرارا وهو يختلس النظر إلي.. حاولت جاهدا أن أستعيد في ذاكرتي ما يعينني على التعرف على هوية هذا الشخص.. ثم تساءلت عما اذا كانت تربطني به علاقة ما؟ ولماذا لم يتقدم ويذكرني بتلك العلاقة؟.. وشرعت أبحث في ذاكرتي عن ذلك الوجه.. هذه الذاكرة التي يحسدني البعض عليها تخذلني هذه المرة.. عندما مررت به وهو يتخذ من احد الكراسي القريبة من السائق مقعدا له.. تعذرت عليَّ معرفته مرة أخرى.. هل ان علاقة ما حصلت بيننا؟ حين توقفت الحافلة في المرأب المركزي وهو محطتنا الاخيرة.. بدأ المسافرون بالنزول تباعا منها.. وكنت توجهت مباشرة الى احد باعة السكائر المنتشرين في المرأب.. في البدء ارتعشت يداي للحظات ثم ما لبثت ان استعدت توازني في عملية التفتيش عن محفظة نقودي.. لم أتحمس كثيرا في التفتيش مرة أخرى فانطلقت عيناي تبحثان عن شخص لا أشك إطلاقا ان علاقة ما تربطني به..).
 فالنص يكشف عن المضمر وراء النسق البنائي المقنن.. برؤية كاشفة عن البؤرة المكانية المحركة له.. من خلال محاولة المنتج (القاص) استجلاء الماضي عبر استرجاع صورته القابعة في زوايا الذاكرة ليقدم سردا بأسلوب ذاتي (داخلي) باعتماد تقنية الاستذكار والمشهدية الدرامية.. مقترنا بأسلوب موضوعي (خارجي) ليخلق جوا من الاقتراب من الحدث باستخدام تقنية الراوي العليم من اجل توفير مناخ سردي غني بعوالمه الفكرية والدلالية من جهة ومن جهة اخرى اضفاء مساحة متسعة من الخيال.. فضلا عن تداخل الاساليب التعبيرية بتوظيف ضمير المتكلم (الانا) والغائب (الهو) على لسان الراوي السارد.. كونه شخصية تأخذ على عاتقها الكشف عن مجريات الاحداث عبر الحوار الذاتي (المنولوجي) كصيغة تعبيرية كاشفة عن دواخل الذات وكيانها النفسي ومكنوناتها الفكرية.. فضلا عن انه يسهم في نمو الحدث.
وبذلك قدم المنتج الهيتي نصوصا تسير في مسارات موجزة.. وهي تتكئ على التكثيف والاختزال الجملي والحذف والاضمار والجملة الفعلية التي تسهم في تسريع السرد مع ابتعاد عن الوصفية الاستطرادية واعتماد الضربة الأسلوبية الادهاشية المفاجئة.