ذاكرة المثقف

ثقافة 2021/07/07
...

د. أحمد الزبيدي 
 
حين يحدّثنا مثقف كبير عن موقف يعتمل في خلجاته فإننا نُصغي إليه بانبهار؛ وبعضنا يملك ذاكرة حديدية فيحفظ الذكرى بشحمها ولحمها؛ ولأنه كبير - إذن - علينا أن نصدّق سرده فخبر يرويه الكبار لا تنطبق عليه شروط البلاغة القديمة بأنه يحتمل الصدق والكذب.. لأن ما يهمنا الفضاء الثقافي وصورته وأسلوبه، وكيف كان يتحرك به المثقف بغض النظر عن طبيعة السرديات المعبرة عن تلك المرحلة الغائبة عن الحضور الآني؛ فالنفس تميل إلى معرفة ما يغيب عن عالمها الحسي.. ولعل من بين أهم المسؤوليات التي حددها أدوارد سعيد للمثقف هي مسؤولية (الذاكرة): ((من أكبر أدوار المثقفين في المجال العام هو أن يعملوا كنوع من الذاكرة العامة، أن يتذكّروا ما نُسي أو تم تجاهله. أن يذكّروا الجمهور بالمسائل الأخلاقية التي قد تكون محتجبة خلف صخب الجدال وضجّته)).. ولهذه المقدمة مناسبة تتعلق بالناقد والمثقف الكبير جابر عصفور وطبيعة مؤلفاته النقدية الأخيرة وهي حمّالة بذكريات وذاكرة ثقافية ذات مواقف معرفية عميقة تؤرخ طبيعة الأسلوب الثقافي وتنأى عن القضايا الشخصية الدفينة والفردية والتي لا علاقة لها بالشخص المتحدث عنه لا ثقافيا ولا إبداعيا ومختلفة تماما عن تلك المذكرات التي قد نقرؤها اليوم وهي تعبر عن (مثقف غنائي) يبوح بمشاعر غنائية تجاه الآخر بقصد الإساءة لا غير، ويتحدث باطمئنان كبير لأن المساء إليه مات وثأرت منه الذاكرة ورحمه الله .
وأنت تتصفح كتب جابر عصفور الأخيرة ومنها (تحولات شعرية) و(معركة الحداثة) فإنك ستشم رائحة ذاكرة ناقد (وصفي) تعمل على استيقاظ مرحلة ماضية ليجعلك شريكًا في تقويمها عبر استحضار الآني المسكوت عنه.. والجميل أنه يعمل على ذاكرة تتجاوز البعد المحلي أو تتجاوز البعد الذاتي بمعنى هو يتحدث عن (الذات) عبر (الآخر) المماثل لها.. يتحدث عن بداياته وتتلمذه بأسلوب التلميذ، بأسلوب المرحلة تلك وليس الذات (الآن) وكأنه يصرّ على أنه الناقد الموضوعي حتى في ذاكرته التي لا ضير إن خضعت لاشتراطات الذات الفاضحة! في تحولات شعرية سيعرفك جابر عصفور على كاريزما نازك الملائكة وكبريائها وكيف يتمنى المسؤول الرفيع (جابر عصفور) اللقاء بها بمكتبه في الوزارة، وكيف تعتذر بلطف كبير رغم أنها في ضيافة القاهرة، وكيف تنازل عن طموح المسؤول وارتضى بطموح الضيف الذي يريد زيارتها في دارها وتعتذر؛ وكذلك – أيضَأ- يلتمس لها العذر والغزل!!.. سيبوح لك جابر عصفور عن المكانة الشعرية الكبيرة لسعدي يوسف في نفسه ونقده! وستعرف في كتابه (معركة الحداثة) الذاكرة الهائلة لكيفية ولادة مصطلح الحداثة ومشتقاته في الثقافة العربية، بل لا يخجل من الاعتراف بكيفية التعرف على البنيوية وأين سمع بها أول مرة وتطفله على محاضرات زكريا إبراهيم!.. وكيف كان أمل دنقل ينام على السرير بالعرض لا بالطول وهو يقرأ قصيدة لأدونيس بل دنقل هو من عرف جابر عصفور بأدونيس.. هذه هي الذاكرة (الشريفة) والمسؤولة التي تعكس وعي المثقف ونزاهته من (تخريف) الشيخوخة
الثقافية.