الغيرة.. أمي وأنا ورولان بارت في الصورة

ثقافة 2021/07/13
...

 عبد الغفار العطوي
 
قد وقع اختياري على فكرة أثارها رولان بارت حول الأسرة والأم، في كتابه (غرفة التظهير حاشية على التصوير). كوقوع الأهواء على بعضها، حينما يتعلق الأمر بـ (الأم) ويزداد هوس التأثير في حالة موت الأم، وغيابها عن عالمنا، وما تتركه من فراغ شديد، وألم عميق، كلما تصادف أننا نلتقي صدفة بصورها القديمة الباقية، أحببت رولان بارت جداً، وأنا أكلف نفسي بخوض تجربة الكتابة عن الصورة في عالمنا، العالم الذي نعرفه من خلالها بقول غاستون باشلار، وأقنعت خاطري بصحبة بارت، وهو يكتب عن أمه، في آخر هذا الكتاب، وإذا علمت أن أم بارت وأمي من أقرباء الموت، الذي طواهما الآن، لكن أم بارت وأمي تنتميان ليس لعالم الموت وحده، بل هما أيضا تنتميان لعالم الصورة، سأنقل ما كتبه بارت عن أمه في أخريات أيامها، كي تتضح فكرة الهوس التي داعبتني، وأنا أتذكر أمي في أخريات أيامها، وهل بإمكان أن تحمل الصورة التي التقطها بارت في ألفاظ  الحداد؟.  
سأكتم الاحساس بالغيرة، لأن الاحساس ذاك نابع من معرفة بارت بمعنى الموت، الموت الذي كنت أجهله، حينما أخبرت بموت أمي، عبر الهاتف، كنت ساعتها في اجتماع طارئ في مقر الجريدة الفتية التي أسست بعد عام 2003، للتحضير لعدد مهم عن التفجيرات الدموية التي تهز البلاد، لكن أم بارت كانت أوفر حظاً من أمي في الحداد وفي الصورة، قد وجدت بارت متحلقاً وحده حول صورة أمه، لقد عدت لنفسي منذ البداية، مبدأً ألا أختزل الذات التي أمثلها أبداً، إزاء بعض الصور، قال بارت ذلك، لكني طالبته بإعادة الكتابة عن أمه، كي أشفي غليلي من حرماني لأمي المتوفاة، بعد أمه وبعده (رحلت أمي عام 1995)، بينما كان بارت وأمه قد عبرا بوابة الموت منذ زمن، إلا أن هوس الغيرة، وفي أن يكون لي غريم مثل بارت قد ألح عليَّ القول له بأن يكتب عن أمه، كتب بارت: مضيت هكذا، في البيت الذي توفيت فيه لتوها، ناظراً لصور أمي تحت ضوء المصباح واحدة تلو أخرى، وصاعداً مع الزمن، رويداً رويداً، باحثاً عن حقيقة الوجه الذي أحببت، ولقد اكتشفتها قاطعته أنا بشدة ملفتة لنظرته
قلت:
(de qui tu parles 
رد:  C est la photo de ma mere كانت الصورة جد قديمة).
أحسست بالغيرة، لأن هوى أم بارت صار لديه عظيماً، وكم تمنيت أن أفعل مثله، في جمع صور أمي التي كانت ترفض أن يؤخذ لها أية صورة، بيد أن بارت استمر، إذ كتب في يوميات الحداد، الذي بدأ في اليوم التالي لوفاة أمه يوم 25 أكتوبر 1977 كان يكتب بالحبر، وأحياناً بقلم الرصاص، على بطاقات كان يعدها بنفسه من أوراق ذات مقاس واحد. حيث ولدت أم بارت هنرييت بينجر سنة 1893 وتزوجت لويس بارت وهي في العشرين، وصارت أماً في الثانية والعشرين، وأرملة بسبب الحرب وهي في الثالثة والعشرين، عندما ماتت وهي في الرابعة والثمانين من عمرها كان ابنها في الثانية والستين، ولم يكونا قد افترقا أبدا. ولما باشر في تسجيل يوميات حداده، كانت أمي شابة ترفض التقاط صورة بزيها الريفي الذي قدمت به، ومن اللافت للنظر التشابه المذهل بين أم بارت وأمي، إلا في اختلاف الأزياء التي تنحدر من أصول القرن الثامن عشر، لكن بارت بات لا يصدق، عن تلك الفتاة الصغيرة التي صارت أمه كتب: لا أستطيع أن أنزع من أفكاري هذا، لقد اكتشفت هذه الصورة وأنا أصعد الزمن. والسبب تسرب هوس الغيرة لقلبه المكلوم، إذاً كيف يتسنى لنا أن نصف ماهية الغيرة في الصورة التي تربطنا معاً؟ 
الغيرة هي هوى بيذاتي يشتمل على الأقل، وبشكل كامن على ثلاثة ممثلين: الغيور والموضوع والغريم، فضلا عن أن هناك طرفاً آخر، يمثل موضوعاً له هوى البخل، وهو هوى بيذاتي أيضاً. 
وبما أني أشعر إزاء بارت بالغيرة للصورة التي حظيت بها (هنرييت بينجر) دون أمي، فأنا الغيور وهو الغريم، بمعنى أن تكون أمي في عداد الأموات مع أم بارت، ولم يأتِ على ذكر أي شيء في يومياته في الحداد عنها، وعن أن التشابه بينهما قد أجريته عن طريق (الفوتوشوب) لبخله هو لم يكتب، سوى في مفتتح يومياته الصادم والغامض أولى ليالي العرس، ولكن أول ليلة الحداد 26 أكتوبر 1977. 
إذ لم أشعر غير بالغيرة والبخل اللذين تبادلنا الأدوار فيه، لكني تذكرت تعليقي على ما كتبه في (غرفة التظهير) حول النقطة المهمة (الانفعال بوصفه نقطة انطلاق) حينما كتب: قلت لنفسي حينئذ، أن هذه الفوضى وهذا المأزق اللذين تظهرهما رغبة الكتابة عن التصوير يعكسان نوعاً من الراحة التي عرفتها دائما. كانت فكرة التصوير بالنسبة لديه هو الإحساس الأبستيمي بالموت الذي سيلحقه مع أمه، لأبقى وحدي أتأرجح بين هوى الغيرة وهوى البخل في صورة مشتركة خالية منهم أمي وبارت وأمه (مات بارت في حادثة سير في 25 شباط
1980) .