صورة المثقف الملتزم

ثقافة 2021/07/13
...

 صلاح الموسوي
 
يغيّر الإنسان الأمكنة هربا من السأم والتوق لاستكشاف عوالم جديد، ولكن في نهاية الرحلة وبعد الوصول الى نهاية العالم، يجد ان العودة لموطنه والإخلاص في خدمة أسرته تحقق له من السعادة مايفوق حاصل الأحاسيس بالانتشاء والرضا خلال تجواله،  فذات الإنسان سرعان ماتعود الى الملل والسأم بعد ان تذوي تدريجيا متعة ودهشة المكان الجديد، هكذا تكلم الشاب النبيل والمعذّب بالحب العذري والمثالي بطل رائعة الشاعر الكبير غوته (آلام فارتر)!؟         
أن تخدم أسرتك البايولوجية فهذه غريزة انسانية متأصلة، أعلى درجات العطاء فيها تضحية الأبوين لصالح الأبناء، ولكن الوعي العقلي والعاطفي أرقى من الغريزة البدائية، إذ يرتفع السقف الذي يبذل تحت ظله العطاء، كالتضحية من أجل الشعب أو الأمة أو الوطن، ويفوق الأنبياء الجميع في ثمن العطاء لأنهم يعملون تحت أعلى السقوف وهو سقف الإنسانية، ونجد في القرآن الكريم تأكيدا لعظمة هذا العطاء والوعد بالتكريم الإلهي الخاص كمقابل لتضحية النبي من دون حساب وذلك عبر الآية القرآنية التي تخاطبه بالقول (ولسوف يعطيك ربك فترضى).
أذنت العصور الحديثة بظهور الدور المحوري للمثقف بعد  انتهاء عصر الأنبياء، وقد تعددت التعريفات واختلفت في تحديد ماهية المثقف والأدوار المناطة به، ولكن ما لايمكن المراء فيه، أن المثقف الحالي بولادته أول مرة وصيرورته عبر القرون الأخيرة هو ابن عصر العلم والصناعة المتفوق بعقلانيته وتشعب وتعقيد بناه الروحية والمادية، على العصور الزراعية التي سبقته، وكان من أبرز نتاجها الأديان والفلسفة اليونانية، واتفقت كثير من آراء المثقفين على تحديد موقف الروائي الواقعي الفرنسي إميل زولا في الدفاع عن الضابط اليهودي دريفوس المتهم بالخيانة العظمى، هو اليوم الذي ولد فيه المثقف الحديث، والذي أبرز مواصفاته التصدي للقضايا العامة التي لا تشترط التماس مع مصالحه أو جني الفائدة الشخصية منها. 
ويصف جوليان بيندا في تعريفه الشهير للمثقفين، أنهم جماعة صغيرة من ملوك حكماء يتحلون بالموهبة الاستثنائية والحس الأخلاقي العالي وقد وقفوا أنفسهم لبناء ضمير الإنسانية. وتعريف بيندا المحافظ، تضع على الواجهة صورة المثقف المقاتل، الكائن المنبوذ، الشخص القادر على قول الحقيقة للسلطة، إذ لا توجد في اعتقاده سلطة دنيوية كبيرة ومهيبة جداً لايمكن أن تنتقد وتوبخ بحدة، والتعريف الآخر الشهير هو تعريف غرامشي للمثقف كشخص ينجز مجموعة وظائف في المجتمع. 
مذيعون، أكاديميون محترفون، محللو كومبيوتر، محامو الألعاب الرياضية، مستشارون إداريون، خبراء في السياسة، مستشارون للحكومة، مؤلفو تقارير السوق المتخصصة، وهذا ما اصطلح عليه بالمثقف العضوي، وهو الأنموذج الذي ازداد شيوعا بعد طغيان نمط العولمة في الغرب بشكل خاص والعالم عامة.
يحتفظ لنا التاريخ بشواهد عن مركزية المثقف ودوره في مواجهة الأزمات الوجودية للشعوب والنهوض بحلول خلاقة كونه يمتلك القدرة الأكثر حيوية واثارة، وهي قدرة الانتاج النظري واكتشاف الأسئلة الجوهرية، فكما الطبيب الأهم هو الطبيب المشخص للمرض، ليأتي العلاج في ما بعد من آلاف الأطباء الآخرين، وكما الآلة الجديدة يصنعها نظريا شخص واحد او اثنان ليعمل عليها بعد اكتمال انجازها الآلاف من العاملين، فهنا يتجسد واجب المثقف الخلاصي، الذي يمتلك الحق دائما بالمزايدة النبيلة، من أجل أن يجبر السياسي وغيره على انجاز الأفضل وباستمرار. 
يروى عن بولندا قبل ان يستولي عليها الألمان في الحرب العالمية الثانية، أعد جهاز الغستابو قوائم بعشرات المثقفين البولنديين للتخلص منهم بأسرع وقت، كون الثقافة هي حصن الشعب الأخير بعد أن تسقط حصون الجيش والسياسة والاقتصاد، ومنها يستطيع الشعب أن يعيد البناء وينظم المقاومة ضد المحتلين. وهذه الصورة للمثقف هي التي لا يحدها زمن، ولا تستغني عنها الشعوب خصوصا خلال ازماتها الهوياتية العميقة، أو الإصابة المزمنة بأدواء التخلف والانحلال
والتبعية.