اللعب في التشظية النصية وتفكيك نظامها التراتبي

ثقافة 2021/07/13
...

 ناجح المعموري 
 
في النص القصير (سهم أخير) لعبد الزهرة زكي، نجد الرجل فقيرا لكنه غني الكلام، ممتلئا بقدرات الحكواتي، خسر ما يميزه مادياً وربح ما ينفرد به عن غيره من قدرات الكلام، هو الوحيد القادر على القول والتحكم بالكلام، إذ تعبت يداه ولم يكل لسانه عن القول، ومع كل الذي أصابه ظل متمكناً على تأكيد: 
كلما أرمي سهماً نحو قلب العاصفة 
يظل معلقاً في الظلام 
يظل هكذا مرمياً طائراً الى الأبد 
هو كلام في حدود الاعترافات الخاصة بالسيرة الذاتية، قالها وظل سهمه معلقاً في الظلام، ووردت في هذا المقطع أول إشارة الى أن قلب العاصفة هو المقصود بالاصطياد أو الاتصال الادخالي، إنه مكان الصياد المحدد وليس العاصفة كلها.. العاصفة التي سيجد التأويل فيها بعداً أسطورياً. يساعدنا هذا المقطع رقم 3 على تأكيد قصدية اللعب في تنظيم نسق الملفوظات النصية يشتتها الشاعر ويوزعها، يبعدها عن التراكم المتتالي حتى يمنحها طاقة أكثر وهذا ما توفر عليه المقطع التالي الذي وردت إشارة له في السطر الأول (نحو قلب العاصفة) وفي المقطع الخامس/ السطر الثاني: (خذيه يا عاصفة). لم يكتفِ بهذا الفعل، بل أكد أن المقصود هو: خذه يا قلب العاصفة.
من هنا يتضح للقراءة بأن عبد الزهرة زكي يتعمد اللعب في التشظية النصية ويفكك نظامها التراتبي من أجل أهداف فنية وفكرية كما أنه يضيء تحديداته الفكرية والاجتماعية باختيار مركز الموصوف/ من العدل بشيء/ ولم يكل الظلام/ يظل معلقاً في الظلام/ طائراً الى الأبد/ غير سهم أخير/ يا قلب العاصفة سدده نحوي/ هذه مراكز لم يبق شيء خارجها وهي التي انتظمها النص وتحكمت به وبقوة دلالته، وصارت فضاء أسلوبياً، تميز مثلما في كتاب اليوم.. كتاب الساحر.. نصوص حكائية.. الغنائية فيها هادئة، شفافة لأنها تظل صالحة لكل الأزمان. لأن الأنا ستكون دائماً حاضرة لان الغنائية تسمح بالتعبير عن تفاصيل {روح شعب بحاله، إنها تلتفت للأفراد الذين يشكلون الجماعة بنفس القدر الذي تعبر فيها عن الذات الجمعية... الشعر العربي في أصله غنائي}.
إن مغامرات الشاعر حققت تفوقات في النص الشعري الجديد، وتحديثاته مبهرة للقراءة، ومحيرة أيضا، بسبب خضوعها لانسجام كلي وضبط فني، وتحكم في العناصر النصية المشكلة للأنساق الداخلية وكأن نصه سردٌ طويل، وهو فعلاً كذلك، لكن طوله ليس معيارياً في الحجم وإنما وظيفياً فقط، في الإحالات والاستشرافات التي يومئ لها، وأعتقد بأن ذلك متأتٍ من أسطورة الشاعر التي يختار ويمارس محترفه الفني معها وكأنه يقول لنا هاكم أساطيركم.. نتاج المخيال البشري ولكنها بعناصر جديدة، هي خصائص تجربتي وأنا سعيد بها ومتباهٍ بتأثيراتها.
أنا أدرك بأن الشاعر عبد الزهرة زكي قد أدرك طاقة المخيال وقدرته على الانفلات من كل المحددات والضوابط باتجاه مساحات حرة، لأن التخييل دين كما قال وليم بليك، ولأن الشعر دائم فأنهما الشعر/ الدين ينهلان من منبع واحد، وهو ـ الشعرـ يكتفي بتسمية الآلهة والشعر دائم الثورة على نفسه ولا يكف عن التحول، في حين الدين ثابت مستقر ودائم ومع ذلك فإنهما يشتركان في البحث عن المجهول. يسعى الشعر نحو ما هو غير مرئي ولا يجد حلولاً نهائية لكن الدين يقدم جوابا واحداً ونهائياً/ حوار مع محمود درويش/ الدستور/ 24/9/2004.
في هذا الرأي الحساس والدقيق جدا إتضح ليَّ ما هو داخلي بين الشعر والدين وأعتقد بأن هذا المفهوم قابل للاتساع واقتراح انفتاح لصالح الدين، ليس بوصفه قداسة وعبادات وإنما إيمان مطلق واستعداد طوعي لقبول فكرة التضحية، هنا تكون العلاقة بين الشعر والدين الأوسع أكثر إفصاحاً.. لكننا نقبل توصيف محمود درويش حول الدين المقدس لأنه مكون من عقائد /طقوس /شعائر /أساطير والأخيرة هي الغائبة في الكتابة الشعرية المعاصرة منذ بداية الأربعينات وحتى هذه اللحظة، وأنا أدرك وكما ذكرت بأن الشاعر عبد الزهرة زكي معلق بها وصارت هي ميزة حية، ونابضةً في تجربته الشعرية الجديدة. ولا بد لي من تأكيد اختلافاته كلياً عن غيره من الشعراء المستثمرين للأطراس الأسطورية وهو يمثل أنموذجاً خاصاً في وعي اتساعات الأسطورة التي اقترحها هو واشتغل عليها وأضاف لها، أكدها كما في سهم أخير وقلب بؤرها كلية وقدمها مربكة ومشوشة للمتلقي الذي لا بد أن -من أجل الاقتراب إليها- يدرك تفاصيل تجربة الشاعر السابقة لملاحقة الامتداد ومعرفة آلية التكون النصي لديه والتشكل المعماري في تجربة محلقة وحدها، مشكلة سربا يومئ لها.
الأسطورة في سهم أخير كامنة، لكنها شفت عبر السهم والقوى والظلام الذي غادر فضاءه الاجتماعي والسياسي ليتحول الى مرموز أنثوي وأسطورة تقبل هذا الذوبان. تتسع ويتشظى المعنى فيها لتكشف لنا أصولاً صراعية في الثقافات الأولى.
ولندخل الى قراءة مشاكسة لتوصيفات من اشتغل على الأسطورة ونقترح رأيا شخصيا ينطوي على تذكير بأن الأسطورة لم تكن في يوم من الأيام لغة وملفوظات عبر كل مراحل التاريخ الحضاري وإنما الأسطورة بوصفها كلمات المجاز والرمز ممثل لها بمرحلة متأخرة وكانت الأسطورة طقساً ومزاولات وشعائر سحرية... لذا أنا أجد في عدد من نصوص الشاعر عناصر للأسطورة بمفهومها الذي أشرت له وهو غير معني بالقاموس الذي يشكل معجم الأسطوري بل هو منحاز لمفردات تمثل خاصية في تجربته، أو يتلاعب بها مثلما يلاعبها ويومئ بهدوء للطاقة التي تشربتها تجربته الشعرية، ولأن الشاعر عبد الزهرة زكي يعرف ـ أنا واثق من ذلك ـ بأن الأسطورة مفهوم متسع ولا يمكن لأي منا أن يقدم توصيفاً لها وتعريفاً قادراً على اختزال كل الآراء والتعريفات من خلال توصيف واحد
فقط.