14 تموز.. بهجة اللحظة الثقافيَّة وصدمتها الدامية

ثقافة 2021/07/15
...

 عادل الصويري
 
يعود تموز، وتعود معه الالتفاتات القلقة إلى الوراء، حيث المنعطف الصيفيُّ الذي أزال برماده مملكة الشيزوفرينا السياسية؛ ليلظمَ أيام الجمهورية الوليدة كخرز حمراء في خيط فظيع.
تدورُ المسبحةُ بين الأصابع التموزية وهي تداعب ثقافياً خرزات الأيام ببهجة مؤقتة مستعجلة، حملت معها تناقضات الزمن السابق، في الوقت الذي انتعشت فيه كل أشكال السطحية الثقافية التي لم تكن ترى ما هو أبعد عدا استثناءات قليلة رصدت المهمل في لا وعي اللحظة.
أعرف أنني الآن أستعير عنوان كتاب مالك المطلبي (ذاكرة الكتابة.. حفريات في اللاوعي المهمل)، لكنها استعارة تبدو منطقية طالما أن الحديث بصدد اللحظة التموزية التي شكلت انعطافاً منح الثقافة بهجةً سرعان ما استحالت إلى صدمة كبيرة جعلت الأجيال تنمو على تناقضات عائمة بين الملكي/ الجمهوري، والتحولات التي رآها (المطلبي) حدثت في حدود 24 ساعة، مع تجمع قطرات الدم، واستباحة الحياء الاجتماعي الموروث بإبراز الأعضاء التناسلية لجثث المسحولين من العائلة الملكية.
يقول مالك المطلبي: بدأ خيط الدم يسيل منذ العام 1958 وحتى عام 2003، ولا تزال تجري كامتدادات له قطرات متقطعة. وكلما تقدم خيط الدم هذا في الزمن المبتدئ بعام 1958 نحو الأعلى حفر عميقاً حتى صار في الأربع والعشرين عاماً الأخيرة مجرى متدفقاً. 
هذه الإطلاقة التي تُسمى (ثورة) كانت هي الحد الفاصل بين نمو طبيعي ونمو اصطناعي. والمأساة التي أفقتُ عليها هي أن الخمسة عشر عاماً التي شكلت حياتي باعتبار أن الطفولة هي مستودع للتفاصيل ما بعدها بحسب فرويد كانت جميعاً في ما قبل العام 1958. ولهذا كنت في السنوات التي تلت سنوات النمو الطبيعي أشبه بمن استبدل عقله بتجمع للآراء المفبركة».
وفي قبال حفريات المطلبي وقراءته لذلك المنعطف، كان نسقٌ ثقافيٌّ تشكل بصفته وريثاً لليسار الثوري قد ملأ الذهنية العراقية منذ تلك الفترة ولغاية اليوم بأفكار (الثورة) وقصائدها حتى صارت مفردة الثورة تشارك الناس في مائدة طعامهم، وفي الجرائد التي يطالعون أخبارها، بل انها صارت دليلاً لحقهم في السكن حين تأسست مدينة لسكن الفقراء المعدمين باسمها.
إنَّ تفكيك المنعطف التمّوزي في العراق يحتاج جهداً أبعد ما يكون عن ايديولوجيا الصراع السياسي في تلك الفترة، وأكثر واقعية من مديح الثورة في قصائد حسين مردان وعبد الأمير الحصيري، او حتى هجائها وهجاء زعيمها عبد الكريم قاسم كما فعل بدر شاكر السياب. فالحالتان تمثلان صراعاً هو أقرب للمزاجية من التصور المعرفي، فالشاعر حسين مردان الذي امتدح الثورة كتب لاحقاً بشيءٍ من التشاؤم عن ممارسات السلطة الثورية التي تغنى بها سابقاً فقال: 
 
(الليلُ سقفٌ من فؤوسْ
ولو انني أدري ستنفجرُ الشموسْ
فإذا الرؤوسْ
مشدودةٌ بالموتِ في ظلِّ التروسْ
وعمامةُ الحجّاجِ قد وُضِعَتْ وزمجرَ في النفوسْ
حقدُ التيوسْ).
 
والفاصلة الزمنية البسيطة بين تغني حسين مردان بالثورة ثم تشاؤمه من مخرجاتها، ومثل حسين مردان آخرون، تبين التأرجح الثقافي بين البهجة والصدمة، الانفعال والتراجع، ما يعني ضرورة وضع هذا المنعطف التاريخي والاجتماعي على طاولة نقدية بعيداً عن أنساق تمجِّدُها لدرجة الأفلاطونية الموهومة، أو شيطنتها من دون الأخذ بالاعتبار الظرف المرحلي والصراع الايديولوجي، ومن دون تبريرات عقيمة لممارسات عنفية تتجمل بالشعر واللغة كما فعل بهجت عباس في قصيدة له ادّعى أنها باسْم الشعب حين قال:
فَبِاسْمِ ذا الشعبِ مُحْتَفّاً بقائدهِ.. عبد الكريمِ سنحمي كلَّ منشعبِ
ونقذفُ الخصمَ لا يلوي بداهيةٍ.. لهيبُها كلظى تموز في الشُهُبِ
ومن أرادوا رُسُوّاً في مرافئنا.. فقد فرشنا الثرى بالموتِ والعطبِ
 
يا له من نكوص ثقافي كبير حين يكون العنف باسْمِ الشعب، بذريعة حماية (الثورة) بحيث يُرمى المخالف (الخصم) في الدواهي الملتهبة حيث الثرى المفروش بالعطب، والمخيلة التي تقرأ بانفعال من دون تركيز أو تحليل سواء من جنرالات الثورة أو مثقفيها من رومانسيي الدم والمؤامرة والايديولوجيا، قبل أن يستقر هذا المنعطف التموزي في ذهنية يسارية متطرفة لا ترى في الزعيم إلا ذلك الشخص المتكامل والخالي من الأخطاء والنقص حتى وإن أراد قسم من اليساريين الإطاحة به في وقت مبكر، وحتى لو عاتبه أحد أهم رموز الشعر الشعبي وهو الراحل عريان السيد خلف الذي مثلت قصيدته الشعبية بعد أكثر من خمسة عقود صحوة ذهنية طفيفة حين خاطب زعيم الثورة الإشكالية قائلاً: منّك كلها منّك طب حراميها.. ولعب بيها وخبطها وشرب صافيها.. يا شاطر غلطتك كلفتنا أرواح.. والغلطة الجبيرة شلون
تمحيها.