عندما ينشطر الإنسان الى نصفين

ثقافة 2021/07/15
...

 هدية حسين
لطالما يسعى الإنسان خلال مسيرة حياته للبحث عن المجد، ويختلف شكل المجد من شخص الى آخر، قد يجده البعض في تكوين أسرة متماسكة يغمرها الحب، بينما يذهب آخر الى جمع المال والعمل في المشاريع الكبرى، وفريق ثالث يرى المجد في ساحات الحروب والتفاخر بعدد من قتلهم من الأعداء، هكذا تختلف النظرة ويتغير الاتجاه، والفيسكونت ميداردو بطل رواية (أسلافنا.. الفيسكونت المشطور) اختار أن يكون من الصنف الأخير. 
 
وهذه الرواية هي الأولى من ثلاثية للروائي الإيطالي إيتالو كالفينو، أما بطله فهو شاب ينحدر من عائلة إيطالية نبيلة، امتطى صهوة جواده ذات يوم وذهب قاصداً البلاط الامبراطوري ليتطوع في الحرب ضد الأتراك ولينال شرف المساهمة فيها كواحد من أبطالها.
كان ميداردو قبل الحرب يعيش حياة مرفهة في قصره، محاط بالعديد من الحرس والخدم، وهو الحاكم والقاضي في الوقت نفسه، إلا أنه أراد أن يضيف مجداً لمجده، حتى أنه لم يكترث على طول الطريق الى الجثث من البشر والحيوانات المنتشرة على طول الطريق، بأجساد كاملة أو بأجزاء متناثرة، بل كانت تلك المناظر تجعله يشعر باللذة، وها قد وصل ليقدم الى الامبراطور ولاءه فمنحه الامبراطور في الحال رتبة ملازم، ولم ينم تلك الليلة، كان يتوق الى الغد حيث ستبدأ المعركة صباحاً.
 لكن تلك الحرب لم تكن نزهة كما كان يظن الفيسكونت ميداردو، لقد تفاجأ بأن الأتراك جاؤوا بأعداد غفيرة تفوق جيش الامبراطور، واشتبك الطرفان بالسلاح الأبيض، وعلى الرغم من أن ميداردو أبدى شجاعة كبيرة وقتل عدداً من جنود الأعداء، إلا أن اشتداد المعركة وقطع أرجل جواده جعلاه يفقد التوازن ويسقط، ليكون فريسة سهلة أمام أعدائه.
لقد أعادته الحرب من أول معركة، مشطوراً الى نصفين، نصف تشظى على أرض المعرك ونصف عاد مشوهاً، بقدم واحدة، وذراع واحدة، وعين واحدة وبنصف وجه، لا يمكن النظر إليه من دون أن يشعر الناظر بالخوف، بالأخص إذا ما علمنا أن النصف، الذي عاد كان يحمل الشر الكامن في كل نفس بشرية، أما النصف الذي فقده فهو الجزء الطيب، لقد استأصلت الحرب الخير الذي كان فيه ولم يبق له إلا الشر، وهذا ما تفعله الحروب جميعها منذ أول حرب دارت على الأرض، وهذا أيضاً ما تتناوله الرواية التي تُخرج لنا عنصر الشر بأبشع صوره عندما يتحول الإنسان الى كائن مسخ يريد أن يمسخ كل شيء.
 من هنا يبدأ الصراع، صراع النصف الشرير الذي نصب المشانق في مدينته وأعدم الكثيرين وأشعل الحرائق في البيوت، ليس في مدينته فقط وإنما في المدن المجاورة، وشطر كل شيء الى نصفين سواء كان شجراً أم فاكهة أم حيواناً، صار التشطير مهمته ولذته الوحيدة، وكلما فعل ذلك شعر بسعادة غامرة، لقد أخفى وجهه عن الناس برداء أسود، حجر نفسه أول الأمر في غرفته، حتى أن أباه لم يستطع أن يخرجه، ولم يعلم الأب بحجم إصابته، فلما بعث له طيراً كان قد دربه ليعرف من خلاله ما أصاب ابنه، عاد الطير بعين مفقوءة، وقد كُسرت إحدى ساقيه وأحد جناحيه، فعرف الأب ما حل بابنه ومات من الحزن.
لم تدم عزلة ميداردو وقتاً طويلاً، لقد صنع له المعلم بيترو النجار ما يسهل ركوبه على الجواد، وهذا المعلم كان وما يزال مخلصاً لسيده، عُهد إليه مهمة صناعة ونصب المشانق، لا يرفض أمراً ولا يتوانى عن عمل، وبالرغم من أن اثنين من أقربائه كانا ضمن المحكومين بالإعدام شنقاً، إلا أنه كان يكبت مشاعر الألم التي يحس بها، وبعد أن صنع لميداردو مقعداً يسهّل عليه مهمة الركوب، صار الأخير يتجول على جواده في أرجاء مدينته من دون أن يراه أحد ليقطع كل شيء الى نصفين ويتفنن بصنع المآسي للأخرين، وكان الناس حينما يرونه عن بعد يختبئون في بيوتهم أو وراء الأشجار، حتى الدكتور تريلاوني الذي جاء الى المدينة وسكن في كوخ بعيد منشغلاً بأبحاثه، كان يخشاه، ولا يفكر بطريقة ما لمعالجته، بل يتحاشاه قدر ما يستطيع، لقد كانت بحوث الدكتور تريلاوني حول الحشرات المضيئة التي تتكاثر في المقابر، وحتى لو كانت بحوثه عن الشرور، كيف يمكن معالجة نفس بهذه العدوانية وهذا التوحش؟ 
يغوص إيتالو كالفينو بأعماق النفس البشرية المعقدة، برواية تنحو منحى الفانتازيا، خصوصاً بعد أن يدخل المدينة النصف الضائع من الفيسكونت ميداردو فيحدث الانعطاف الحاد في الأحداث، النصف الطيب الذي تشظى في ساحة المعركة، وفي البداية اعتقد الناس أن النصف الشرير بدأ يتغير ويعود الى طيبته ويفعل أشياء طيبة للناس، لكن لم يلبث النصف الشرير أن يفعل في اليوم التالي عكس ذلك، فحار الناس في الأمر، وظنوا أن الفيسكونت الشرير يفعل المقالب بهم، قبل أن يتبينوا الأمر ويعرفوا الحقيقة، تصل الرواية ذروتها عندما نصل الى هذا الحد، نصفان يتجاذبان ويتصارعان من أجل الالتحام، نصفان لا يكتمل الإنسان إلا بهما، بخيره وشره، ومن خلالهما تكشف الرواية جوانب أخرى للحياة في المدينة، مرضى الجذام المنعزلون عن الناس وقساوة ما يعيشونه، الحب من خلال قصة باميلا التي عشقها النصف الشرير فهربت الى الغابة، فكيف سينتهي هذا الحب بعد أن يكتشفها النصف الشرير؟ وماذا فعل النصف الطيب ليقول الناس: إن النصف الطيب هو الأسوأ؟ كل ذلك وغيره، بتفاصيل كثيرة في رواية عجائبية صنعها إيتالو كالفينو ببراعة وإدهاش.
أسلافنا.. الفيسكونت المشطور. ترجمة معن مصطفى حسون. دار الكلمة للنشر والتوزيع. دمشق