الشاعرُ ضالةُ اللغة

ثقافة 2021/07/15
...

طالب عبد العزيز 
 
  يشتقُّ وينحتُ النقُّادُ والباحثونَ مفرداتِ كتاباتِهم ومصطلحاتِهم النقديّةِ والبحثيّةِ، بما ينسجم مع أفكارهم، ويريدون استخراجه لمقاصدهم، وإذا كان الاشتقاق يعني (أخذُ الشَّيء من شيءٍ آخر، أو أخذْ شقّهِ، واقتطاعُ فرعٍ من أصلٍ ما..)  أو أخذ كلمة من كلمة أخرى، مع بعض الإجراءات على وفق ما يناسب المعنى.. فإنَّ النّحت هو القطعُ والبريُ والنشرُ، فيقولون: نحت النجّارُ الخشبَ إذا اقتطعَ منه وشذَّبَ حوافَّهُ وبراهُ، ولعل الفراهيدي هو أوّل من اشار الى ظاهرة النحت بقوله: إنَّ العين لا تأتلف مع الحاء في كلمة واحدة، لقرب مخرجيهما، إلا أنْ يُشتقَّ فعلٌ من جمْعٍ بين كلمتين، مثل قولهم: أقول لها ودمعُ العينِ جارٍ- ألم يحزنْكِ (حيعلةُ) المنادي؟  
 وهنا، لا نرى أجملَ وأقدرَ من العربية على استخراج واشتقاق المصطلحات، ومن سعتها في احتواء القصد وكمال المعاني، وما الفاظ مثل (الحيعلة) و(البسملة) و(الحوقلة) و(العبشمة) وسواها إلا من جميل ما صنعه المدوّن العربي لها منذ قرون بعيدة، ومع استحساننا للتركيب واللفظ، وسهولة الحصول عليه، ها نحن نتلمس المؤدّى البليغ له، بما يشتمل على الاختصار والايجاز ايضاً. ولعل جماعة العاملين في حقول التشريع والقضاء بعامة، واساتذة العربية والشعراء والمترجمين والكتاب وسواهم كانوا الاحوج الى استعمال المفردات والاشتقاقات والنحوت تلك، فهي تختصر الطريق الى الفهم والادراك، فضلاً عن الدقة في التعبير، والكمال في المعنى، والاناقة في الصوغ، ومن ثم ترسيخ قواعد لغوية جديدة، يتزيّنُ المعجم العربي بها، وبما يعين في الترجمة أيضاً.
  وربما تشتدُّ حاجةُ الشاعر الى مثل اللآلئ البديعة هذه، في الكتابة والقول، قبل غيره من مستعملي اللغة، فجمال الشعر يأتي من مقدرة صاحبه على تقليب الألفاظ، واستنزال المعاني، ومن الفرادةِ في البيان، والاشتقاق، والتصريف، ومن الاتيانِ بالنادر والجميل، وغير المستهلك بألسنة العامّة، وهو نعمةٌ لا تساقُ إلا لمن آمن بصنعته، ومُهّدت طريقه اليها، وهو دليل على تشبّعٍ بعد ظمئٍ ويَبَس، فاللغة عشق يخالط القلب والروح قبل كل شيء، وما الشعر إلا ابتكارٌ وصوغ مختلف، ولعِبٌ بريءٌ على جسد الأم (اللغة) بتعبير ياكبسون. 
  يُعتقد بأنَّ جملة (حَمِيَ الوطيس) لم تكن مستعملة قبل أنْ يقول بها الامام علي، وفي القرآن والحديث وقصائد وخطب العرب الكثيرُ مما لم يكن في لغتهم من قبل، أو كان ميتاَ فأحيي بما قالوا وكتبوا، وبما أُستُخلِصَ من أفواههم وأقلامهم بقوة الحجّة وبلاغة الخطاب، وأصبح قاعدةً وعرفاً. لذا نرى بأنَّ الشاعرَ أقدرُ الناس على ابتكار المعاني الجديدة وبثِّ الحياة بما أهمل من اللغة بالمعاجم. ربما لا تستوقفنا قصيدةٌ لشاعر ما، إلا أننا قد نكبرُ فيه جدّةَ صوغه ومهارةً في لغته، فنراه قد اشتق فعلاً من مصدرٍ، أو نحت مصدراً من فعل، أو جاء بما لم يكن في لغتنا من قبل، فحُسبَ له.