فان كوخ منتحر العالم المجنون الأشهب

ثقافة 2021/07/25
...

  موج يوسف
لم يغب عن بال القارئ عندما نذكر اسم (فان كوخ) فيقول: الفنان العالمي المجنون أو المجنون الأشهب بحسب تسميّة أهل بلدة آرل الفرنسية التي لجأ إليها، وصنعَ أهم أعماله الفنيّة المشهورة، وفيها بدأت رحلته مع الاضطراب النفسي وهذا 
الأخير جاء من الهوس الديني والولع الصوفي ونوبات الاكتئاب التي أسهمت 
في حبّه للعزلةِ وكان ينظر إليه على أنه مجنون وفاشل، وصارت هذه الصفات كالوسام الملصق باسم كوخ. 
 
غير أن الشاعر والناقد التشكيلي (أنطونان أرتو) في كتابه (فان كوخ منتحر العالم) الصادر عن دار الرافدين بترجمة وتقديم عيسى مخلوف قد أضاء الجانب الملوّن بعتمة المجتمع الذي يقتل شرارة الوعي عند من يحمل النبوغ.
فينبري أرتو مدافعاً عن كوخ قائلاً: (نستطيع أن نتحدّث عن الصّحة العقليّة الجيّدة لفان كوخ الذي لم يشوِ طول حياته إلّا يداً واحدة وما عدا ذلك فهو لم يُقدم إلّا على صَلم أذنه اليسرى في عالمٍ تأكل يوميّاً فرجاً مطبوخاً أو عضو وليد مجلود وغاضب).
قد تبدو هذه الرؤية عاطفية وفيها دفاع ملون بالوفاء لكننا لو نظرنا إلى العالم والمجتمع وتساءلنا من المجنون؟، ومن المشوه؟، ومن شوّهه الأفراد أم المجتمع؟، في كلِّ دقيقة تُرتكب أقبح الجرائم بحقِّ الإنسانية ولا يُصنف مرتكبها على أنه مجنون. 
في حين نجد أن الفنانَ أو المبدع يخترعون له الطبّ النفسي والأمراض النفسية ليتمّ زجه في غرف ضيّقة تعزله عن نشر نور إبداعه، وهذا ما حدّث مع كوخ، فقد نعتوه بالمجنون والشرير، لكنّ أرتو يقول: (فان كوخ لم يكن مجنوناً لكنّ أعماله الفنيّة كانت تجسيداً لنيران يونانية وقنابل ذرية قادرة من زاوية رؤيتها في ذلك الوقت أن تضايق بقوّة الأعراف البرجوازية الخام للإمبراطورية الفرنسية الثانية. أعمال فان كوخ لا تهاجم الأغراض السائدة فحسب بل المؤسسات نفسها وحتى الطبقة الخارجية) الذين مزّقوا ثياب المجتمع ومؤسساته التي تغطّتْ ببرقع الدين والطبقية ووضعت تابو لا يهدم عندما يحكم عليهم بالجنون والشر، وفان كوخ بفنّه هدد هذه التابوهات فهو ينتصر للفقير والطبقات التي نبذتها تلك الحيتان. 
ونجد في رسائل يردّ على تلك الاتهامات قائلاً: (فأنا الشخص الحساس بشكل رهيب سواء جسدياً أم معنوياً). إذن من قتل فان كوخ المجتمع أم الطب النفسي؟، هذا ما يجيبنا عنه أرتو عندما قرأ رسائل كوخ إلى أخيه وصل إلى قناعة راسخة بأن الدكتور غاشييه (الطبيب النفسي لكوخ) هو من ساعده على الانتحار فيذكر (اسمع ما قاله الطّبيب. 
ينبغي التخلي عن هذه الأفكار كلّها: إنها تسيء إليك إذا تابعت التّفكير فيها، وهكذا تبقى محتجزاً مدى الحياة). حاول الطبيب أن يجرّد كوخ من أفكاره السّليمة وانتزاع نبوغه منه، فهذا الطبيب كان يشنق كوخ كلّ صباح فيقول: (أعرف أن محادثة طبيب نفسي، صباحاً، في الوقت المحدد كانت تجعلني أرغب بشنق نفسي). 
هذه السطور توضح عندما يقع الفنان أو أي مبدع فريسة في أنياب المجتمع الذي لا يفهمه وهو لا يستطيع أن يفسّر أو يشرح نفسه للآخرين، وهذه ليست مشكلة فان كوخ، بل لو قلّبنا صفحات حياة المبدعين نجد أن مجتمعهم نفاهم وعزلهم. 
هل إنَّ الحياةَ لا تتسع سفينتها لمثل هؤلاء؟، ولماذا تقبض أرواحهم وهم في أوج عطائهم؟، فهذا فان كوخ الذي اشتهر ونال العالمية بعد أن ذبحه العالم، لكن يبقى السؤال لماذا انتحر؟، هل بسبب الكآبة والاضطراب النفسّي؟، يرى أنطونان أرتو: (مات فان كوخ منتحراً لأنَّ جوقة الوعي الكامل لم تعدّ في استطاعتها أن تتحمله). وفيما يبدو لي أن البيئة وما فيها لا تطيق الوعي التام الذي يتمتع به المبدعون فتفرز فايروساتها لتقضي عليهم. الكتاب يظهر جوانب أخرى من حياة الفنان العالمي وفكّ لغز انتحاره كذلك يقف عند نقد وتحليل لوحات كوخ.