طوكيو تحت الحصار!

الرياضة 2021/07/26
...

علي رياح  

تدعو الرياضة، في أعمق وأهم معالمها وتقاليدها، إلى الانفتاح والتلاقي في الفضاء الحر، وإلى الانطلاق في رسم الصلة والتواصل بين الشعوب. وحين وضع البارون الفرنسي بيير دي كوبيرتان، أسس الرياضة الأولمبية لتكون أداة الرُقي بالإنسان لما هو فوق مستوى الفوز وحسابات الإنجاز البدني، كتب في مذكراته أن أقصى تحدٍ يمكن أن يواجه الألعاب الأولمبية أن تصيبها السياسة بداء التأجيل أو التلكؤ أو التوقف، لكنه قال بالحرف الواحد: (ستصل الدنيا بعد حين إلى القناعة بأن أي عطب يصيب محرك هذه الألعاب يعني اختلالاً كبيراً في النظم الحياتية التي تمسك بخيوط العلاقة بين الأمم). 
وخلال كل أربع سنوات تفصل بين دورة وأخرى، كان العالم يضطر الى تمثـّل هذه الكلمات واستحضارها، فمع مرور الزمن، واتساع رقعة الألعاب، وتطور آلياتها، وتساقط أرقامها، كانت السياسة تطل برأسها، من بعيد وعلى استحياء طوراً، وعلى نحو سافر في الكثير من المنعطفات الزمنية، حتى بات من المهم لدينا أن نتذكر كلمات كوبيرتان الذي قرأ المشهد مبكرا، ففي البدء كانت هناك لغة من الانسجام والتناغم حين انطلقت الدورات في أثينا، كان الهم محصورا في التمويل والتنقل، لكن الحروب وما تبعها من محاور عسكرية وتخندقات سياسية، صارت الخطر الذي يهدد مصائر الكثير من الرياضيين الأبطال والهواة على حد سواء خلال فترات التحضير لأي دورة.  
لكن ما سبق دورة طوكيو المؤجلة في الأصل عاما كاملا يخرج عن هذا الإطار، فلعلنا نتذكر فعل السياسة وتلك الأحداث الجسام التي سبقت أو رافقت الدورات الأولمبية، والتي توجت بأسلحة المقاطعة يوم كان المعسكران الاشتراكي والرأسمالي يقتسمان رغيف المشاركة، ولم تكن ثمة قوة أخرى مؤثرة يمكن أن تدخل شريكة بين الطرفين وخصوصاً خلال العقدين السبعيني والثمانيني، وقد تجلى ذلك في أحداث ميونيخ 1972، ومونتريال 1976، وموسكو 1980، ولوس أنجلس 1984، وسول 1988، بل وحتى في برشلونة 1992.  
غير أن موجة كوفيد – 19 التي تجتاح العالم بكل تحولاتها الوبائية غير المسبوقة وغير المفهومة لبني البشر، جعلت التحدي في طوكيو مختلفا، ووضعت الأجواء الرياضية المسالمة المنفتحة في إطار من الحجر والحظر والحصار، وهذا ما أعيشه هنا في اليابان منذ وصولي إليها قبل أسبوع .. حالة من التربص تحيط بكل تحرك.. رجال الأمن في كل مكان.. التعليمات صارمة وتبدأ بعد الوصول بالدخول في فترة حجر إجباري داخل الغرفة لمدة ثلاثة أيام، وهذا قرار يشمل الجميع رياضيين ومسؤولين وإعلاميين، ولم استغرب أن يسري الأمر حتى على توماس باخ رئيس اللجنة الأولمبية الدولية الذي دخل في فترة الحجر في غرفته بمجرد وصوله إلى طوكيو، وذلك لكي يبعث برسالة لا تخطئها العين إلى المشاركين جميعا، بأنه لا بدّ من إطاعة الأوامر المتعلقة بالسلامة وكسر منحنيات جائحة كورونا حتى لو تمّ ذلك على حساب الحرية الشخصية أو المعتادة في كرنفال عالمي كبير مثل الدورة الأولمبية!.  
لكن الرياضة تثبت في كل مرة أنها التحدي الإنساني المتعاظم بعينه، فلقد مرّت الألعاب الأولمبية من قبل في ظروف أثقل وطأة، وكانت السفينة الأولمبية تمخر العباب بنجاح، وستخرج المعمورة من التحدي الجديد كما أريد لها في يوم التأسيس، ظافرة، وليس ثمة خيار آخر غير النجاح، بعد أن أثبتت الرياضة أنها الوجه المضيء للحياة التي لن تستمر من دون أن يكون للرياضة بمعانيها العميقة هذا الدور الإنساني المشرق.