أ.د.قصي الجابري
خلال العشرين سنة الماضية، تطورت أنظمة المدفوعات بالتوازي مع تقدم التكنولوجيا المالية، فظهرت وسائل دفع عديدة مثل بطاقات الائتمان وبطاقات الدين والبطاقات الذكية، وغير ذلك من وسائل دفع
حديثة.
ولقد بادر العراق الى العمل بتوطين رواتب موظفي الدولة كجزء من اجراءات تطويرية نفذها البنك المركزي في أنظمة المدفوعات بقصد زيادة كفاءة هذه الأنظمة في تحقيق أهدافها.
ورغم أهمية عملية توطين الرواتب إلا أن الإجراءات المكملة لعملية التوطين اتسمت بما يأتي: أولا انها تُحمّل الموظف أعباءً جسيمة غير قادر على تحملها نتيجة الفوائد العالية للقروض والسلف التي تقدمها المصارف، والتي جعلت الموظف أما أن يتحملها وهو مضطر بسبب ضائقة مادية معينة، وهذا هو شأن جميع المقترضين، أو أنه يتركها لكونه لا يستطيع تحمل تبعاتها.
وكمثال على ذلك مصرف الرافدين فالمستلف لمبلغ 15 مليون دينار مثلا عليه أن يسترجع نحو 22 مليون دينار، أي أن الفائدة ستكون 7 ملايين دينار تقريباً، أي انها نصف مبلغ القرض، وهكذا الحال
بالنسبة لبقية المصارف.
ثانياً: إن هذه الإجراءات ظلت منقوصة أو ضعيفة، مما يقلل من المزايا الذي يتيحها نظام توطين الرواتب وجعلها تستبدل مخاطر السرقة المحتملة للرواتب بشكلها النقدي عن طريق دائرة الموظف بتبعات كبيرة على الموظفين بما في ذلك الزخم الكبير على المصارف خلال مدة تسليم الرواتب، فبالرغم من زيادة عدد أجهزة الصراف الآلي في العراق من (654) جهازا في عام 2017 إلى (1003) أجهزة في عام 2019، وكذلك زيادة عدد نقاط البيع من (367) نقطة عام 2017 إلى (3834) نقطة عام 2019، إلا أن هذه الزيادة في واقع الأمر زيادة متواضعة لا تلبي الحاجة الفعلية من هذه الخدمات ولا تحقق الأهداف التي من أجلها تم العمل بنظام توطين الرواتب، إذ إن هنالك حاجة الى المزيد من التوسع.
وللتعرف على وضع العراق من هذه الناحية، فمن خلال متابعة نتائج مسح الوصول إلى الخدمات المالية Financial Access Survey - FAS لصندوق النقد الدولي نجد ان عدد اجهزة الصراف الآلي لكل مئة الف من السكان في العراق لم تتجاوز 3.83 في عام 2019، في حين ان هذا المعدل بلغ في مصر 18.72، وفي الأردن 29.44، وفي السعودية 73.79 صراف آلي لكل مئة الف من السكان. إن هذا يدل على وجود ضعف كبير جداً في مستوى انتشار اجهزة الصراف الآلي في العراق، مما أدى الى تراخٍ كبير في محور مهم جدا يسند عملية الإفادة من نظام توطين الرواتب.
أما من ناحية عدد نقاط البيع POS فقد بلغ عدد نقاط البيع في السعودية لعام 2020 أكثر من 700 ألف نقطة بيع، أما في الأردن فقد بلغ عدد نقاط البيع POS أكثر من 38 ألفا عام 2021، ولا يختلف الحال بالنسبة لمعظم الدول العربية الأخرى. أما في العراق وكما أشرنا سابقاً فعدد نقاط البيع لم يتجاوز 3834 نقطة بيع عام 2019. من ناحية أخرى يعاني العراق من انخفاض نسبة المستخدمين لوسائل الدفع الالكتروني من الأشخاص البالغين والذين بلغت نسبتهم 19 بالمئة في عام 2019، في حين ان هذه النسبة في مصر بلغت 23 بالمئة، وفي السعودية 61 بالمئة، وفي الكويت 75 بالمئة، وقد يعود ذلك الى تدني مستوى الثقافة المالية وعدم فاعلية اجراءات الحكومة والبنك المركزي في ترسيخ الثقافة المالية.
لقد أدى ذلك الى ضعف كبير في محور أساسي آخر قام عليه مشروع توطين الرواتب، وجعل من عملية توطين الرواتب عملية غير كاملة تقتصر على تسليم الرواتب للموظفين في ظل زخم كبير من المراجعين على المصارف شكّل في كثير من الأحيان أعباءً إضافية على الموظفين الذين وطنوا رواتبهم في هذه المصارف، كما أنها لا تتناسب مع إجراءات التباعد الاجتماعي التي تستهدفها الحكومة للحد من تأثيرات الجائحة، فضلا عن ترك الموظف لدائرته لتسلم الراتب عن طريق المصارف. إذ انه رغم عملية التوطين إلا أن عدد المصارف لم يتطور بشكل يتناسب مع هذه العملية.
لذا فلا بد من السعي الحثيث من قبل البنك المركزي وكذلك وزارة المالية لتحسين هذا الواقع، فالتوطين هو ليس عملية تحويل توزيع الرواتب من دوائر الموظفين الى المصارف فحسب، بل إن هنالك اجراءات أخرى استهدفتها عملية التوطين، وهي في الواقع العملي غاية في الضعف، فنادراً ما يتم استعمال الماسترد كارد لشراء البضائع أو اجراء المدفوعات المختلفة لعدم وجود نقاط بيع
كافية.
كما أن المصارف فقدت مصداقيتها في تحقيق الشمول المالي الذي يخفف الفقر ويساعد الأفراد على تحقيق رغباتهم وسد احتياجاتهم من القروض نتيجة سعر الفائدة التعسفي الذي تفرضه الكثير من المصارف، فضلا عن ارتفاع أقساط القروض. لذا فلا بد من وضع خطة واقعية طموحة لزيادة نقاط البيع POS وأجهزة الصراف الآلي ATM، فضلا عن وضع خطة طموحة للإصلاح المصرفي وزيادة عدد المصارف وتطوير الإجراءات المصرفية المتهالكة التي يعاني منها الجهاز المصرفي، والتي تعود الى فترة السبعينات ولربما أقدم من ذلك بكثير، في الوقت الذي تطورت فيه الإجراءات المصرفية في كل دول العالم نحو إجراءات مصرفية أكثر كفاءة وفاعلية. كما لا بد من إعادة النظر بسعر الفائدة الذي تفرضه المصارف، وإعادة النظر بطريقة احتساب الفائدة باعتماد معدل فائدة متناقص وعادل.
* أستاذ الاقتصاد: كلية الإدارة والاقتصاد: الجامعة المستنصرية