اشكاليات التحيز

آراء 2021/08/22
...

 د. صائب عبد الحميد
«اولئك المزودون بإيمان مفرط بأفكارهم، غير مهيئين لإحراز كشوفات»/ كلود برنار.
أية عملية كشف علمي أو معرفي إنما تقوم على عنصرين: الاول، عنصر تاريخي، أو قل تقليدي يتقوم باعتماد النظريات المعروفة والمتداولة التي أنتجتها عقول سابقة، هي الموروث العلمي والمعرفي الذي يشكل الاطار العام لأية مدرسة أو اتجاه فكري، في أي ميدان من ميادين الفكر والمعرفة. أما العنصر الثاني فهو عنصر البحث والفحص والاختبار والتجريب، لاستبقاء الصواب واستبعاد الخطأ. الامر الذي ينتهي إما بدعم النظرية السابقة، محل البحث، او بتفنيدها كليا أو جزئيا.
وقد يكون من الطبيعي أن نرى العالِم والمفكر يرغب في تدعيم نظريته، سواء نظريته الخاصة أو تلك التي تبناها من الموروث التاريخي. هذه الظاهرة التي تكاد تكون طبيعية لدى كل انسان انما مصدرها التحيز ومجانبة الموضوعية في أي مجال من مجالات المعرفة، لا سيما حين ترقى تلك النظريات الى مستوى تشكيل الذات المفكرة والعاملة لدى اصحابها. فثمة حقيقة، ندركها أو نتجاهلها، مفادها بأن المعايير التي تتحكم بأفهامنا، إنما هي صنيعة تاريخنا، وصنيعة التقاليد السائدة بيننا. وبحسب هيجل فان أفق الفهم المشترك الذي أنشأه التاريخ، والذي وجد خلال عصر معين، هو الذي يمسك بمعاييرنا الخاصة، بما هو عقلاني أو غير عقلاني.
 ينقل كارل بوبر سريان هذه الظاهرة في عموم عمليات البحث والتجريب والاختبار حتى في التجارب التي تتعلق بسلوك حيوان ما، حيث اكتشف علماء النفس السلوكيون الذين يدرسون انحياز المجرب، أن أداء بعض الفئران البيضاء يكون قطعا أفضل من أداء فئران اخرى، إذا سيطر على المجرّب اعتقاد «خاطئ» مؤداه أن الفئران البيضاء اختيرت من سلالة ارقى ذكاءً من الاخرى. فخرج هؤلاء العلماء بنتيجة مفادها بأن التجارب ينبغي أن يجريها مساعدون للباحث لا يعرفون المحصلة المطلوبة، متناسين ـ بحسب بوبر ـ أن توقعات من يُنظّم البحث وبغير اعلان صريح قد تتوصل الى المساعدين في البحث، تماما كما يبدو وأنها تتواصل من كل باحث الى فئرانه. 
لم اجد أدق ولا أصدق من توصيف بوبر حين ذهب الى ما هو أبعد من قوله: «إن النظريات تشبه الاعضاء الحسية» مشددا على أن أعضاءنا الحسية تشبه النظريات. «بوبر، اسطورة الاطار، 41».
 اذن هناك ما يصل الى حد التساوق والتناسق بين ما هو داخلي، ذاتي، وبين ما هو خارجي. ما تنطوي عليه في الداخل قد يملي حتى على الحواس طريقة استقبالها المعلومة، ناهيك عما يفعله من أثر بالغ في انتقاء المعلومة بما يعود الى تعزيز متبنياتك وانطباعاتك 
المسبقة.
 بكل تأكيد، وهو ما يطرق أذهاننا جميعا الان، أن الامر في قضايا الايديولوجيا، ما يتصل بالاعتقادات، بالمسائل ذات الصلة بالهوية الثقافية، بالانتماء، هو أكثر تعقيدا بكثير. هذا حتى حين يكون ميدان السؤال والتجربة والبحث ميدانا تجريبيا في قضايا الطبيعة عندما تصطدم النتائج بمعتقدات خاصة في الشأن ذاته. ولعل في تاريخ اوروبا الحديثة من الامثلة على صدامات السلطة الدينية بالكشوفات العلمية في ميدان الطبيعية ما يغني في تدعيم هذه الرؤية، لا بل في توكيد هذه الحقيقة. اما حين يكون موضوع السؤال قضية تتعلق بالاعتقاد، بأدلة بعض قضايا في العقيدة، بل بالتقاليد التي ارتقت الى مستوى الشعار الذي يميزنا، وحتى بقضايا التاريخ التي وظفناها دائما لتدعيم مقولاتنا ومتبنياتنا، فان الامر اكثر تعقيدا بفعل التحفز الدائم المصاحب للايديولوجيا. 
 من هنا ندرك اشكاليات التعرض لقضايا الاعتقاد وادلتها بالنقد والتمحيص. فهذه عملية تتطلب التجرد التام من الانتماء للمقولة العقدية او المعرفية، كي نستطيع ان نضعها تحت مشرحة النقد والاختبار، بحثا عن اصولها، وظروف نشأتها، والعوامل التي تدخلت في تطورها واستمرارها.
وتتضخم الصعوبة عندما تكون تلك المقولة قد أصبحت بمثابة «مسَلّمة» من المسلمات التي لا تخضع للنقاش والسؤال. وهذا المستوى من التجرد ليس سهل المنال، ولا يتحقق بالزعم والادعاء، حتى يكون المرء على استعداد تام لتقبل نتائج البحث الجاد، حتى لو قادته الى تفنيد تلك المقولة التي كانت واحدة من «المسَلّمات» لديه وفي محيطه الاجتماعي.
 وليس منطقيا بحال من الاحوال ان نتوجه الى فحص مقولات عقيدية وادلتها في مدرسة من مدارس العقيدة باعتماد ثوابت مدرسة اخرى ومتبنياتها، لذا فان أي نقد توجهه ايديولوجيا معينة الى ايديولوجيا اخرى هو نقد غير موضوعي، يفتقر الى اوليات النقد المنهجي. فالنقد لابد ان يقوم على ارضية متينة من الحيادية وعدم التحيز، والحالة المفترضة اعلاه حالة سِمتها التحيز، بل التحيز المقصود سلفا، فلا احد يجد ادنى غرابة في مقولة افلاطون: «لا توجد أرضية مشتركة بين هؤلاء الذين يعتقدون هذا، وأولئك الذين لا يعتقدون، بل انهم من منظور آرائهم لابد بالضرورة أن يزدري كل فريق منهما
 الآخر». 
 هل استطعنا تخيل أن هذا النوع من التحيز هو الذي يتحكم بالدراسات اللاهوتية في شتى الاديان؟