النوستالوجيا وغواية الماضي

آراء 2021/09/05
...

 عباس الصباغ
الحنين الى الماضي ظاهرة سايكولوجية متجذرة عند الكثيرين من البشر، لكنها تشكل ظاهرة سايكو/ سوسيولوجية يمتاز بها المرتبطون ارتباطا صميميا بالماضي، الذي يوصف عند البعض بـ «الجميل»، حتى وان لم يكونوا قد عاصروه وعاشوا فيه، ولا يتقبّلون التعايش الحذر مع الواقع المعاش بحجة اكتظاظه بالمنغصات والآلام
والماضي «الجميل» عبارة مخملية طالما ترددت على ألسنة الكثيرين وعلى وسائل السوشيل ميديا أنموذجا، كما تتردد عبارة جيل «الطيبين» معها. وهذا التناصّ قد يعيد الى الذاكرة ما يسمى بالوقوف على الطلل و بكائية استذكار الماضي، لاسترجاع ذكرياته الجميلة والحنين اليها على طريقة «قفا نبكِ» المستوحية من الحنين الجاهلي للأيام الخوالي، حيث الطلل الدارس والمرابع المهجورة للحبيبة والوقوف التراجيدي على تلك الدوارس، وبما يشبه اللغة البكائية للفولكلور الغنائي العراقي، والذي لم يكن بعيدا عن هذا التناصّ البكائي، الذي لا يخلو من جدلية الوقوف والتباكي.
ويمكن ان نعد وسائل السوشيال ميديا بارومترا صادقا لقياس الخط البياني للتوق الى الماضي «الجميل»، والحنين الى ما يسمى بجيل «الطيبين»، وهو مصطلح يطلق على الجيل الذي سبق زمنكانيا التغيير النيساني المزلزل او لكل منعطف تاريخي، وكأنه حد فاصل بين جيلين وزمنكانين ، وما يدار على السنة الناس حول ذلك الحد الفاصل بين الزمانين؛ زمان ولّى واخر معاش، اذ يصفون الماضي الذي ولّى بالكثير من التحسّر بأنه «زمن الخير» مع كيل الزمن الحاضر بالكثير من التضجور والتأفأف والتحسر من انه زمن لا خير فيه، فالخير كله في الماضي، ولكن ان يصل الافراط في الحنين الى الماضي الى درجة «النوستالوجيا» والاستغراق في العيش على الذكريات الجميلة، ما يشكّل اغترابا وانفصالا لا اراديا عن الحاضر وشيزوفرينيا غير مقصودة بالعيش في متون الحاضر، مع استذكار الماضي والتوهّم بالعيش فيه، اي ان الإنسان يعيش افتراضا في زمنين الاول هو ماضٍ»جميل» بالنسبة له والثاني حاضر مليء بالمنغصات، التي سببتها الاسقاطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولعبة التوازنات والتجاذبات الدولية والاقليمية واثرها السلبي في المشهد العراقي العام، وزاد الطين بلة اخطاء وخطايا التغيير النيساني المزلزل وما حمل من تعثرات وعثرات بنيوية كبرى، والذي فشل في رسم صورة جذابة لواقع كان المفروض ان يكون تعويضا عن الماضي الغابر.
 الكثيرون منا يحنّون الى الماضي الذي لم يكن خاليا من الآلام والمصائب والمصاعب، ويرغبون بالانفصال النفسي عن واقعهم المعاش، لينغمسوا بالعيش في أحلام اليقظة كنوع من التفريغ النفسي للشحنة النفسية السالبة المتأتية من متاعب الحاضر المعاش وآلامه. وهذه المتاعب المزعجة أوحت للبعض بتوصيف الماضي بالجميل، الذي لم يكن يخلو من لحظات سعيدة واخرى مرّة كأي زمن يُعاش.