النقد بين الأنا والآخر

آراء 2021/09/05
...

 د. صائب عبد الحميد
 
العقلُ النقدي عقل يثير الاسئلة، ولا يركن للطاعة بسهولة الا بعد اقناع الادلة، وحتى هذا الاقناع لن يكون نهائيا لديه، بل لا مكان لديه لاستقرار الاسئلة وسكونها عند حد ما.
من هنا فهو عقل متمرد أبدا، يتجدد دوما، وهو يدفع ثمن هذا التمرد في مجتمع تقليدي يألف الطاعة والانسجام، الانسجام بمعنى السكون والتراضي على ما هو مألوف، فبين التجديد وبين المحافظة مناكدة لا تهدأ، وفي حال من الاحوال لا يمكننا ان نتوقع مجتمعا محافظا بأسره، او مجددا بأسره، فقد تسير المجتمعات على طريق التجديد والتقدم، لكن الغالبية فيها تتأقلم مع مستوى ما من مستويات التقدم الفكري، فتتوقف عن مشاكسات النقد وتجتنب تبعاته رغبة بتحقيق الانسجام مع الحالة العامة والوضع العام.
لا شك انه يغرينا، ومن الحق ان يغرينا، ما بلغته المجتمعات المتقدمة ثقافيا وتقنيا من مستويات التقدم في ميادين شتى، لكن تقدمها لا يعني انها سوف لن تقع في أسر الاعجاب بالنفس والتوقف عند النهايات المفترضة.
ولسنا نعدم عشرات الامثلة على هذا في أكثر مجتمعات الدنيا تقدما.
فعلى مستوى التقاليد السائدة لم يغير الوعي العلمي والمتابعات الصحية من عادات معظم تلك الشعوب في استخدام المناديل الورقية بدلا من الماء في الاستنجاء، او ربما حتى عدم الاهتمام بالمناديل ايضا.
وعلى الرغم من الكوارث الكثيرة التي أحدثها وجود الكلاب معهم حتى في غرف النوم ، فان ذلك لم يترك أثرا في مفارقة التقاليد والموروث الثقافي.
وهناك ما هو أكثر صعوبة، فحين يتعلق الامر بالهوية الثقافية أو القومية فلن تجد الموضوعية طريقا للظهور، ولن يعرف المنطق سبيلا الى التأثير في ما هو سائد مهما كان مجانبا للصواب وللحقيقة التي تجري على الارض، فمازالت معظم الشعوب الغربية ترى الفلسطينيين إرهابيين متوحشين، يرتكبون أبشع الجرائم بحق الصهاينة في فلسطين.
ولاتزال الخطوط الحمراء أمام (معاداة السامية) تشكل لديهم واحدة من أعتى القيود الايديولوجية على الفكر والبحث والنقد، وعلى حرية التعبير.
وحتى بعد أن تيقن الاميركيون من كذب دعوى وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق كمبرر أول للحرب على العراق في 2003م، فان حجم استنكار السياسة الاميركية من قبلهم لا يبلغ أدنى مستويات التأثير في مساراتها. 
وأكثر من كل هذا ففي الولايات الاميركية ذاتها تنتعش فنون السحر على اختلاف أنواعها في العقود الاخيرة، العقود التي أصبحت فيها اكثر وسائل التكنولوجيا دقة وتقدما متاحة للجميع.
وأكثر من هذا ما تفعله كشوفات علمية جبارة تختلف نتائجها مع رواسب عقدية راسخة، كما كان مع كشوفات كوبرنيكوس التي فندت الاعتقاد الراسخ بمركزية الارض، فقط لان الكنيسة كانت تؤمن بمركزية الارض، ورأت أن هذا الكشف الجديد يزعزع رؤيتها التي منحتها بعدا دينيا، يتجاوز حدود الكشوف العلمية والحسابات الفلكية.
ولا يقف الامر عند هذا الحد وبين عموم الناس، بل هو عند عظماء الناس كذلك حين يغلب عليهم التعصب لموقف او لرؤية مسبقة. 
الى هنا لا أشك في أن جل قرائي إن لم يكن كلهم، وهم من العرب والمسلمين، يقفون الى جانبي ويشدون على عضدي ما دامت الامثلة التي أوردتها كلها مما يدين الغرب المتغطرس المغرور بتقدمه.
لكن عندما اسوق الامثلة من وقائعنا ومن منهجياتنا ومن آلياتنا نحن، فسوف ينفضّ عني الكثير ممن كان يؤيدني حتى الان، ليس لشيء الا لان النقد في ثقافتنا إنما هو نقد الاخر، نقد الخصم وتفنيده ودحضه، أما اذا ما توجه النقد ليطال شيئا مما يعنينا، فذلك لدينا هو الشتيمة، هو الطعن المباشر، هو التجريح، هو العداء الذي يستحق ان نقف بوجهه بكل صرامة، بل أن نستعد لغزوه ودحضه وإفحامه، إن لم نذهب الى ما هو أبعد من ذلك، الى الرغبة في إنهاء وجوده المشاكس المتجرئ على مقدساتنا.. فكل شيء نؤمن به هو مقدس لدينا، بل حتى الافراد الذين نتلقى منهم بعض معارفنا الدينية هم مقدسون أيضا، لا نسمح بقراءة أفكارهم قراءة نقدية، تحليلية، منتجة.
بل لا بد من ان تكون قراءتنا إياهم دائما قراءة تبجيلية، لا تتعدى الشروح المفعمة بآيات المديح والاطراء والتبجيل، واذا ما صادفتنا لديهم افكار أو مواقف لا يمكن قبولها، سارعنا في تبريرها أو تأويلها، فاذا عجزنا عن ذلك، ونادرا ما نعجز، ذهبنا الى غض النظر عنها ومحاولة تجاهلها أو تناسيها.
كل ذلك نفعله مع أننا نؤمن بأن كل فرد معرض للخطأ، وان التقاليد بشكل عام لا تخلو من أخطاء بعضها جسيمة لها عواقب مجتمعية خطيرة، وأن كل عالم وكل مفكر وكل قائد معرض للخطأ أيضا، على أي نحو كان.
وأن أوضح دليل على قناعاتنا هذه هو أننا نستسيغ بسهولة نقد الآخر وتقييم أفكاره او سلوكه، ونستسيغ نقد تقاليد الجماعات الاخرى بكل انسيابية، ونستمتع بتوجيه النقد الى علماء ومفكرين وقادة كبار، وتشريح سيرهم، حين يمثلون جماعات أخرى غيرنا.
فأي تناقض هذا الذي نعيشه اذن؟!