ميشيل أونفري.. باحث عقلاني عن المدينة الفاضلة أم ظاهرة فكرية انتقائية متذبذبة؟

آراء 2021/09/06
...

 د. فخري العباسي 
طالما أثار الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري {Michel Onfray} الجدل في الأوساط الأدبية و السياسية الفرنسية على حد السواء منذ أن برز أسمه في سنوات التسعينيات بعد صدور كتابه العقل الجشع {La Raison Gourmande}، الذي تمحور موضوعه حول دور الفيلسوف في المجتمع الذي يجب أن ينحصر أساسا في مساعدة الشعب على التفكير في المعنى الحقيقي للديمقراطية، لكي يتخلص من البقاء تحت هيمنة النخبة السياسية والاقتصادية التي تحتكر هذين المحورين الرئيسيين لها فقط في جميع المجتمعات التي تحمل صفة الديمقراطية.
 
وللتمكن من تحقيق هذا الهدف، أقدم ميشيل أونفري على طرح مبادرة فريدة من نوعها في بداية حياته السياسية تمثلت في إنشاء جامعة شعبية في مدينة كاين تعمل على {نشر ديمقراطية الثقافة}، عبر كيان جامعي مجاني مفتوح يكرس المعرفة للجميع، على أساس أن المواطن مهما كان موقعه قادرا على استيعاب مفاهيم الديمقراطية، عندما يكون واعيا وعندما يمتلك عوامل الوقت والوسائل التي غالبا ما تكون متاحة أمام نخبة واحدة 
فقط. 
فتحت هذه الجامعة المتكونة من كادر تدريسي وإداري تطوعي وسجل فيها عدد وصل إلى أكثر من 10000 طالب، أبوابها أمام الجميع وجعلت من ميشيل أونفري يحمل لقب فيلسوف الشعب.
بدءا من هذه المبادرة المرتبطة بأفكاره الشعبية، إشتهر ميشيل أونفري وذاع صيته في الأوساط الفرنسية بل وحتى العالمية ونشر عددا زاد عن 115 كتابا سجلت جميعها نجاحا كبيرا ليس فقط في فرنسا، وانما في الخارج حيث ترجمت إلى 28 لغة لأنها تتمحور جميعها حول كيفية الوصول إلى مجتمع مثالي نسبيا ليس فقط على المستوى المحلي وإنما أيضا على المستوى
 الدولي. 
وبالرغم من العقلانية الواضحة في أفكاره، فإنه قد تعرض إلى العديد من الانتقادات من قبل الأوساط الفكرية، التي اتهمته بالتذبذب في أفكاره.
إلا أنه تمكن من شق طريق تفهمي وسطي لا يدعي بأنه يوصل إلى مثالية المدينة الفاضلة، إلا أنه يستطيع أن ينقي الطبقات الفكرية من رواسبها المتوارثة من الأفكار التقليدية، سواء الاشتراكية أو الشيوعية {الشمولية} أو اليمينية المرتكزة على المبادئ الرأسمالية {المادية}، تلك الأفكار التي فشلت في تحقيق شيء من السعادة للمواطن الأوروبي أو الأمرييي، بل زادت من الفوارق الإجتماعية سواء في تطبيق الشيوعية في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق أو الرأسمالية في أوروبا والولايات المتحدة.
في واحد من أهم كتبه الأخيرة الذي حمل عنوان في أن تكون فرنسيا {français}، يقدم ميشيل أونفري رسائل يوجهها إلى الجيل الفرنسي الجديد، الذي ينتمي إلى عدة أجناس وأعراق أصبح {أو على وشك أن يصبح} الجنس والعرق الفرنسي الاصيل يمثل فيها أقلية سكانية بعد موجات الهجرة التي حلت في فرنسا منذ بداية القرن العشرين وحملت الجنسية الفرنسية والقادمة، سواء من أوروبا الشرقية أو من دول االعالم الثالث.
وهو وإن يدعي بأنه يمثل صوت العلمانية المستقلة، إلا انه لا يتردد من الدفاع عن أهمية المحافظة على قدسية الهوية الأخلاقية المتجذرة من الكتاب المقدس بشقيه العهد القديم {التوراة} والعهد الجديد {الأنجيل} أي الهوية اليهودية المسيحية، كما هو شائع في المصطلح المتداول باعتبار أن المسيحية شكلت وتشكل الوريثة الطبيعية لليهودية والمكملة 
لها. 
وهو وإن يعترف بأن العقلية الدينية المسيحية قد انتهى عصرها وأفل نجمها بعد اكثر من الف سنة على نشوئها، ولكن خاصة بعد أن مزقتها الثورة الفرنسية، إلا أنه يأسف على انتهاء القدسية النابعة من الديانة المسيحية في الحياة الفرنسية، والتي تحولت إلى عقلية مادية بعيدة عن الروحية التي يميل إليها.
وهو لا يتردد من التذكير بخطورة الحركات {العلمانية المتطرفة} و{اليسارية الأسلاموية} و{الحركات المضادة للطاقة التقليدية} أو {الحركات النسوية المتحررة الجديدة}، في الوقت الذي ينادي فيه بحتمية أفول العقلية الفرنسية، التي سادت على مستعمراتها القديمة المرتكزة على الهيمنة الثقافية واللغوية الباقية لغاية اليوم في هذه المستعمرات حتى بعد أن حصلت على إستقلالها من فرنسا. 
كثيرة هي الأفكار التفهمية الوسطية التي طرحها ويطرحها ميشيل أونفري.
فهو قد تطرق على سبيل المثال في شهر آذار/مارس الماضي إلى السؤال المثير للجدل بين اليمين واليسار حول ما يسمى {بالاستعاضة الكبرى عن السكان الأوربيين الأصليين بالمهاجرين الجدد}، وهو ما أجاب عليه، مشيرا إلى تقرير صادر عن الأمم المتحدة سنة 2001 يؤكد وجود هجرة إستعاضة كحل منطقي لشيخوخة السكان الأوروبيين، مؤكدا بأن أوروبا تشهد في الواقع {شيخوخة روحية كبرى} مرتبطة {بانهيار المنطومة الروحية اليهودية المسيحية} أمام الروحية المتصاعدة الموجودة أو المستوحاة من {الديانة الإسلامية}، وهو ما أثار سخط ممثلي اليمين واليمين المتطرف واليسار اللذين ينكرون على الإسلام روحيته الأخلاقية إستنادا على الأعمال الإرهابية المرتكبة ليس من قبل المسلمين وإنما من قبل الإرهابيين الإسلامويين، الذين يدعون ميشيل أونفري إلى التفريق بينهم وبين الإسلام كعقيدة أخلاقية معتدلة، عندما يؤكد بأن {للأسلام والمسلمين أخلاق عالية}. 
لا بد أن تدخل مثل هذه التصريحات التي قد تصدم العقلية السائدة لدى الأوساط الفكرية التي تدعي التحرر ولكنها لا بد وأن تدخل أيضا ضمن نطاق نوع من الانتقائية التفهمية في أفكاره لكل ما يناسب المجتمع الذي يراه هو شخصيا.
فهو لا يتردد علي سبيل المثال من قبول الإلحاد كفكر فلسفي وأخلاقي ساد ويسود في أوروبا وطالما دافع ويدافع عنه ولا يرفضه ولكنه لا يتردد ايضا من توجيه دعوة صريحة موجهة إلى الغرب {للتوقف عن القيام بأي عمل عسكري خارج حدود الدول الاوروبية وأميركا وعلى الأخص في الدول الإسلامية}، وهو يتصرف وفق ذلك استنادا على عدم جرح مشاعر المسلمين المرتكزة على قدسية الديانة الأسلامية وأماكن العبادة المقدسة فيها والمنتشرة على
 أراضيها.
ربما يدخل رأيه هذا ضمن السياق نفسه الذي حاول شرحه عندما أجاب على سؤال وجهه له أحد الصحفيين بمناسبة عرض كتابه الاخير الذي أطلق عليه إسم «Les Autodafés» أي المعدومون بالحرق حول الوضعية في أفغانستان حيث قال : {أنا مع السيادة، وبالتالي فإنني أعتقد بأن كافة البلدان يجب أن تتمتع بالقدرة على تطبيق القانون لديها ولا يوجد أي سبب لكي لا يتم تطبيق ذلك في أفغانستان التي يجب أن تمتلك هذا الحق وتقرر تطبيق سياستها}.
قد يحمل تصريح ميشيل أونفري هذا نوعا من التذبذب في أفكاره، إلا أنه لا يتردد من التعقيب في محاولة لتصحيح الالتباس فيه عندما يتعلق الامر بالأفغان الذين يهربون بالألاف من حكم طالبان بعد سقوط كابول تحت هيمنتهم قائلا : {أنا أفهم السكان الذين ساهموا في محاولة إعطاء المجتمع الافغاني صيغة ديمقراطية غربية وهم يرغبون في مغادرة بلدهم ولكن هل يمكن القول بأن هذه الحالة تنطبق على جميع الافغان} ؟ وهو ما يؤكده مستطردا تجاه النساء اللواتي يهربن من سطوة طالبان: {ليس من السهولة لهن أن يعدن إلى دكتاتورية هيمنة طالبان المتشددة} مضيفا بأنه: {يفضل الديمقراطية مع ذلك على الدكتاتورية مهما كان شكلها، حتى ولو كانت 
شعبية}. 
عند التمعن في قراءة أفكار ميشيل اونفري، ربما يجد القارئ أخيرا نفسه مضطرا إلى أن يوجه السؤال له فيما إذا كان باستطاعة الفيلسوف أن ينتقي ما يراه حسنا للمجتمع ويعمل على تنقية الأفكار السائدة من شوائبها ليختار أفضلها حسب إعتقاده وتقديمها على طبق من الذهب للمجتمع على شكل مدينة مثالية فاضلة يقترح 
تطبيقها.
ذلك هو السؤال، اما الجواب فإنه قد يتمثل في أن التطور هو الذي يفرض إرادته على المجتمع في نهاية الأمر وليس الفيلسوف الذي قد ينحصر دوره في تقديم ما يراه صالحا أو ما قد يستنير به وصولا إلى مجتمع ربما يصبح يوما ما مجتمع شبه مثالي نسبيا لكي لانقول مثاليا.
وسواء كان ميشيل أونفري باحث عقلاني أو ظاهرة إنتقائية متذبذبة الأفكار، فإنه يمثل اليوم فيلسوفا يعكس تيارا فكريا جديدا يخرج عن المألوف ويقتفي مسلكا مستقلا يحاول فيه أن يضع خبرته تحت تصرف كافة الشرائح الشعبية وليس فقط موجه لنخبة فكرية 
واحدة. 
 
 اكاديمي عراقي مقيم في باريس