التوافق الاستراري والاختلاف الإشهاري

ثقافة 2021/09/14
...

 د. نصير جابر
 
يأنف الرجل الشرقي عامة والعربي خاصة من تشبيهه بالنساء بل إن هذا الأمر من أصعب ما يمكن أن يتعرض له طوال حياته. ويحفل التراث اللغوي بالكثير من الكنايات والتراكيب التي تُعرّض بهذا الأمر وتطرحه بشكل فجّ وصارخ وكأنها تقارن ما بين ضفتين متناقضتين تماما هما المرأة والرجل أو (الأنوثة والذكورة) ناسبين للرجل المكارم كلها، ونازعين من الأنثى كل صفة حميدة.  
ولكن هذا الفرز الفاصل والحاسم سرعان ما تداخل في ظاهرة حديثة تبدو بسيطة للوهلة الأولى ولا تستحق أن نسبر أغوارها بحثا عن قناعة فكرية منصفة، وقد سوغها بعض من كتب عنها بأنها مجرد محاولة للتواصل من الرجل العربي بسبب المناخ القامع، ففيها يجد فرصة للحوار مع الأنثى وربما يدفعه إلى هذه التصرف الخوف من المجتمع، وما يترتّب على ذلك من عقوبات اجتماعية وقانونية، لذا كانت ظاهرة الصفحات الوهمية التي يفتحها الرجال تحت أسماء نسوية ظاهرة مستشرية جدا في بداية نشاط (الفيسبوك) بل شكلت سُعارا لا نستغربه أبدا، فقد أتاحت للرجل أن يحاور من يشاء وهو مطمئن جدا إلى هويته المعلنة (أنثى) في تناقض غريب ومريب جدا. 
فهو في العالم الواقعي لا يمكن أن يرتضي لنفسه أن يقارنه أحد بالأنثى ويمكن أن يرتكب جناية أو جريمة في ما لو حصل هذا الأمر في سياق التشهير، ولكنه حينما يعود ليلا إلى صفحته وهو بكامل رجولته يتخفى تحت برقع أنثوي بضمير مرتاح.. برقع هو (حماية) له في هذا العالم الافتراضي في تناقض صارخ
جدا. 
والمتأمل لهذه الظاهرة سيجد في قاعها ترسبات وافرة وكثيفة للكثير من أمراض المجتمع التي تطفو على سطح الواقع عندما تتوفر ظروفها الموضوعية، ففي التعليل الأول ينتأ تناقض قيمي واضح ما بين الرجل الذي يرفض أن يتّهم بالجبن لأنه يشبه النساء في أرض الواقع، ولكنه يتقمّص دور المرأة ليكون في مأمن من سطوة المجتمع.
والحقيقة أن هذه الظاهرة التي تبدو بديهية عند بعضهم  فالجواب عنها حاضر وسريع وحاسم: (هي مجرد ستار آمن من أجل حوار حميم)، هي  في الحقيقة أبعد من ذلك ويمكن أن نقيس عليها الكثير من الظواهر الأخرى التي تقترب منها في المعنى خاصة تلك التي تشكل ثنائيات ضدية ذات نزوع مقارناتي بين الرجل والمرأة. 
فمن البديهيات أيضا أن المرأة أكثر حرصا وترتيبا والتزاما في عملها الاداري والوظيفي من الرجل، ولكن ما هو موقعها في المناصب المهمة إزاء الرجل، ففي التوافق الاستراري الكل يعترف أنها الأجدر والأكثر حرصا وتنظيما، ولكن في العلن الاشهاري يرشح الرجل لشغل المناصب الشاغرة دائما لأنه واجهة مقبولة تحفظ  للمنظومة القيمية كرامتها التي ترى في تسيّد النساء خدشا في نسيجها الحساس
جدا!!.
والأمر يتغلغل في ثنائية أخرى عن الطبيب الماهر والطبيبة الأكثر مهارة، ولكن نادرا ما يراجعها الرجال في أمراضهم على الرغم من تخصّصها الدقيق، فهو يخاف جدا أن يسلم مصيره إلى امرأة ويفضل الطبيب الذكر الذي يثق بصفته أكثر مما يثق بعلمه!!.
إنّ الصفحات الرجالية التي تختفي تحت أسماء نسوية مفتاح قرائي دال لكلّ راغب في معرفة عقد المجتمع القارّة التي تنتج دائما تشوهات في جسد المنظومة الاجتماعية تجعل من الوصول إلى الهدف أمرا
عسيرا.