فرصة الإبداع

آراء 2021/09/21
...

  د. صائب عبد الحميد
الصدام الفكري، سواء كان في بيئة مجتمعية واحدة، أو في بيئات متباعدة، هو المجال الحيوي الاكثر تحفيزا للخلق والابداع الفكري. في أثينا كان هذا الصدام حافزا أساسا في ذاك النتاج الفكري الثر في تلك الحقبة المعروفة من تاريخ اليونان. وعاشت اوروبا هذا النوع من الصدام منذ بواكير عصر النهضة، وما زالت تعيشه حتى اليوم، ليتمخض عنه كل هذا التراكم المعرفي والعلمي الذي تميزت به الحضارة الغربية على مدى هذه القرون الأخيرة. 
 
المسلمون أيضا عاشوا هذه التجربة في مراحل عديدة من تاريخهم القديم والحديث والمعاصر. فالمسائل الاولى في علم الكلام لم تكن لتظهر لولا هذا النوع من الصدام، ويتجدد الصدام ويتسع بموازاته علم الكلام، حتى بلغ هذا العلم ذروته لدى المعتزلة والاشاعرة والامامية في القرنين الرابع والخامس من الهجرة. وحتى المسائل الكلامية المتفرقة إنما ظهرت عند المسلمين للرد على شبهات الزنادقة اولا، ولولا تلك الاسئلة لما ولدت تلك الاجابات والردود. اما الاحتكاك بالفكر اليوناني منذ انطلاق حركة ترجمة التراث اليوناني الى العربية، فأثره أثر اساسا في ولادة فلسفة اسلامية حاولت التوفيق بين المقولات العقلية اليونانية، وبين اصول المعتقدات الدينية في الاسلام. بل حتى مسائل فقه الاحكام لم تكن لتتسع وتنمو لولا تجدد واتساع أسئلة الحياة المتجددة، التي أتاحت لجميع المدارس الفقهية أن تثبت قدرتها على المواكبة والمنافسة. ومن دون شك انعكس ذلك كله على اتجاهات تفسير القرآن، فأصبحت كتب التفسير مشحونة بالآراء الكلامية والفقهية المتجددة. وفي هذه الاجواء ذاتها تولد علم أصول الفقه ونما وازدهر. بل حتى علوم اللغة العربية وفي مقدمتها علم النحو، لم تكن لتولد لولا هذا النوع من التحدي. 
ويمضي هذا النوع من الصدام مجالا حيويا أمثل لولادة الافكار، فلم يكتب ابن رشد (تهافت التهافت) الا بعد ان كتب الغزالي (تهافت الفلاسفة). ولم يكن ابن تيمية قد وضع موسوعته الكبرى (منهاج السنة)، الا للرد على كتاب (منهاج الكرامة) الذي وضعه ابن المطهر الحلي المعاصر له. ولولا احتكاك الافغاني ومحمد عبده والطهطاوي والكواكبي وابن باديس ومالك بن نبي بالفكر الغربي المعاصر، كل في مداه، لما وجدنا نتاج التغيير والتجديد والابداع الذي تحقق على أيديهم. ولولا الانتشار الواسع الذي حققه الحزب الشيوعي العراقي، لاسيما في محافظات الجنوب والفرات الاوسط، لما انبرى فقيه مثل محمد باقر الصدر، وهو الذي نشأ في مدرسة الفقه التقليدي، لتأليف كتاب مثل (فلسفتنا) و(اقتصادنا) و(البنك اللاربوي في الاسلام).
وحين يتحدث عن بدايات عصر النهضة في اوربا ينقل إرنست بلوخ نقل المسلمات المنطقية في كتابه (فلسفة عصر النهضة) توصيف هوتن لتلك الحقبة بقوله: "العلم يزدهر، الاذهان تتصادم وجها لوجه، إنه لمتعة أن نحيا". فتصادم الاذهان وجها لوجه هو متعة الحياة وهو مفتاح ازدهار العلم. فالتقدم العلمي والنتاج الفكري في اوروبا كان يغذيه هذا النوع من الاختلاف والتباين في الرؤى والادوات المنهجية، لينتج باستمرار رؤى جديدة وكشوفات جديدة ما كانت لتكون لو تتابع الكل على رؤية واحدة أو رؤى متناسقة يغازل بعضها بعضا ويمجده ويعلي من شأنه.
والتصادم الثقافي يفترض جدلا وجود فضاء من الحرية تتنفس فيه الافكار المتضاربة والمتباينة، فالحرية هي الشرط الاكيد لظهور الافكار الحرة، للتجديد، للاختلاف، لتنوع المعارف والعلوم والفنون. الحرية هي الفضاء الوحيد الذي يحيا فيه العقل ويتفتق بالابداع، هي الفضاء الوحيد الذي يسمح بالتغيير والتجديد. 
فما أن تغيب الحرية حتى تكون السطوة للتقليد الميت، لاجترار الوان من الماضي تعزز الركود وتضرب طوقا من حديد على كل عقل ناقد فعال منتج. الحرية بأبعادها، السياسية والاجتماعية والدينية، حين تغيب يغيب العقل النقدي، ويتحول التصادم الى تصادم هدم وتعطيل، ويصبح الحوار حوار الطرشان، لان كل شيء يتكلس في الاذهان. ومن هنا تتوالد المقدسات على النحو المرعب الذي تعيشه معظم مجتمعات الارض اليوم، كما عاشته حقبا أسلافها. فالشخوص تصبح مقدسة، والمقولات تصبح مقدسة، والتقاليد تتعالى في قدسيتها فوق كل شيء، بينما لم يكن شيء من كل هذه مقدسا في زمانه حين كان يحيا بتوالد الافكار وتجددهها، حين كانت العقول تتبادل الأ خذ والعطاء.
وهنا تتحول الكثير من المتغيرات الى ثوابت، ويتسيد المجتمعات اصحاب العقول التقليدية التي تبذل كل شيء من أجل حماية وتكريس تراكمات عصور التخلف والتراجع والانحدار، لنكون أمام بيئة لا تنتج سوى التعصب والخرافة. حيث ينتشر التعصب الاعمى، وكل متعصب انما يختزن في داخله الاستعداد للعنف ضد الآخر، فيتحول هذا النوع من المجتمعات الى عبوات مهيأة للانفجار مع أي احتكاك محتمل. 
وتنتشر الخرافة لتضفي مزيدا من التقديس على أوهام وعلى أخطاء فادحة. وحتى الان لم تستطع المجتمعات البشرية انقاذ الدين من الخرافة ومن سطوة زبانيتها التي تفوق سطوة السلطان الجائر المستبد. سطوة يعززها العقل الجمعي المعطل الا من الترديد والتكرار والتمجيد والحماس لعواطف لم يقاربها الوعي، ولا تستسيغه على الاطلاق.