فواصل التنظير في علاقة الدين بالسياسة

آراء 2021/10/03
...

 صلاح حسن الموسوي
في معرض اعجابه واحتفائه بافكار كتاب «الأمير» للايطالي نقولا ميكافيللي، شدد هارفي مانسفيلد احد المنظرين للتيار المحافظ الجديد في الولايات المتحدة على ان ميكافيللي احدث ثورة في تطور الفكر البشري للسياسة عندما رفض الربط بين الفضيلة والدين، اذ قسم الفضائل الى نوعين: فضائل بعيدة يصعب تحقيقها لارتباطها بمبادئ دينية وفلسفية كبرى، وفضائل صغيرة دنيوية يسهل تحقيقها في الحياة الدنيا، وجعل هم المفكر السياسي الانشغال بتحقيق الفضائل الصغرى، وبهذا تمّكن ميكافيللي من الحديث عن نوع جديد من الفضائل التي يجب ان يتميز بها الحاكم، مثل القوة والدهاء والبطش والقدرة على الخداع، والتي كان ينظر لها في الماضي على انها خصال سلبية بعيدة عن الفضيلة، وينسب المدافعون عن ميكافيللي سبقه في النظرة الى الدولة بعين بشرية مجردة واستبطان قوانينها من العقل والخبرة واستبعاد اللاهوت، وقد بكر في استشراف الفلسفة الواقعية المتمركزة حول المنفعة باعتبار ماهو مفيد ضروريا واعتبار الفلسفة فنا مشتغلا بذاته ومنفصلا عن اي اعتبار اخر .
طوال تاريخ الدولة الاسلامية لم يصل التنظير السياسي الى ما اسس ميكافيللي له من فصل الدين عن الدولة. الا انه في منتصف القرن الرابع الهجري تحديدا، احتاج واقع الدولة الاسلامية الى ضرورة التنظير السياسي للحكم بعد ظهور معادلة جديدة للقوّة تمثلت بضعف شوكة العرب حمّلة الدعوة وقادة الدولة الذين تنوعوا الى خلفاء راشدين وامويين وعباسيين لحين احتلال البويهيين الفرس لبغداد، وتغلّب الأمراء البويهيون على سلطة الخلافة وخلو الخليفة العباسي من اي سلطة فعلية في زمن البويهان، ومن بعدهم السلاجقة الأتراك الذين حكموا بغداد وكانوا يعتقدون بالمذهب الاسلامي السني على عكس البويهيين الذين كانوا على مذهب التشيع الزيدي. ومن اشهر الذين نظّروا للواقع الجديد الفقيه الشافعي ابو الحسن الماوردي في كتاب (الأحكام السلطانية) والوزير السلجوقي الشهير نظام الملك في كتابه «سياسة 
نامه».
يقول الكاتب اللبناني وجيه كوثراني إن قراءة للنص الذي يتحدث فيه الماوردي عن «امارة الاستيلاء» تجعلنا نستنتج ان شرعية المشروع السلطاني وان تجاوزت الشورى والبيعة اللتين اكد عليهما الفقهاء، فانما ترتبطان اضطرارا بمهام تعود للسلطان، ومن دونهما يكون الاختلال والفساد في ظل عجز الخليفة، وهذا وماورد في احد نصوص كتاب الأحكام السلطانية «واما امارة الاستيلاء التي تُعقد عن اضطرار، فهي أن يستولي الأمير بالقوة على بلاد يقلّده الخليفة امارتها ويفوّض اليه تدبيرها وسياستها، فيكون الأمير باستيلائه مستبدا بالسياسة والتدبير، والخليفة بأذنه منفّذا لأحكام الدين ليخرج من الفساد الى الصحة ومن الحظر الى الاباحة، وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه واحكامه، ففيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لايجوز ان يترك مختلا مدخولا ولا فاسدا معلولا، فجاز فيه مع الاستيلاء والاضطرار ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار لوقوع الفرق بين شروط المكنة والعجز».
تميز الخليفة العربي الذي يعد خليفة لرسول الله بكونه جامعا للسلطة الدينية والدنيوية، ولم تنفصل تلك السلطتان حتى مع ظهور المعارضة السياسية خصوصا ضد الأمويين كالشيعية والخوارج، وكذلك ظهور المدارس الفكرية والدينية كالمعتزلة والجهمية والقدرية وغيرها، حيث كان الطعن السياسي بمشروعية شخص الخليفة وليس لفصل السلطتين الدينية والسياسية وكما حصل في فترة تغلب العنصر المسلم غيرالعربي في قيادة الدولة كالبويهيين والسلاجقة والمماليك والصفويين، فالحديث المتفق عليه بين جميع المذاهب الاسلامية هو ان (الخلافة في قريش) اضطر هؤلاء المتغلبون على قبول فصل سيطرة الأمر الواقع السياسية عن السلطة الدينية، والممثلة بالخليفة وطبقة رجال الدين التي بات وجودها ضروريا لتحديد السلطات ووضع الضوابط الدينية الشرعية، وكمثال لأهمية الحديث النبوي سابق الذكر، لم يجرؤ زعماء الدولة العثمانية مع تملكهم لأمبرطوارية مترامية الأطراف على التلقب بـ (الخليفة) واقتصرت زعامتهم على اسم (السلطان)، وهذا الواقع السياسي الجديد المتمثل بقوة وتغلّب السلطة غير العربية الى نشوء مايعرف بـ «المؤسسة الدينية» والتي تمثلت في النهاية بـ«مشيخة الاسلام» لدى العثمانيين، والمؤسسة الدينية الشيعية التي حظيت برعاية الدولة الصفوية.