في كل أسبوع يوم جمعة

آراء 2021/10/12
...

  د. عذراء ناصر
يقال في الإنكليزية {when life gives you lemon make lemonade} 
أي {حين تعطيك الحياة الليمون اصنع منه عصير الليمون} وهو مثل يقال للمساعدة في التخفيف من أثر الصدمات وصعوبة الحياة، ومحاولة ايجاد أو صنع جانب ايجابي لأكثر لحظات الحياة صعوبة.  
مثلما يمكن لحموضة الليمون أن تخفف بالسكر، يمكن لصعوبة الحياة أن تخفف بالصحبة والتفهم والتجاوز. لكن مسلسل {في كل إسبوع يوم جمعة} يضرب مثلا لغياب التفهم في المجتمع وخطورة نتائج الاحكام واضطهاد المرأة بسلبها حق الدفاع عن النفس وعدم القدرة على اثبات مصداقيتها في مقابل نجاة الرجل من جريمة الاستغلال والفساد. 
يعطينا عنوان المسلسل المصري، الذي رُشح مؤخرا لإحدى جوائز الايمي لأفضل ممثلة رئيسية للفنانة منة شلبي، إنطباعا أن هناك يوم راحة بعد اسبوع التعب الطويل. 
أي إن الحياة يمكن لها أن تعطينا فترة من التعب المتواصل، لكن يمكن لها أيضاً أن تنتهي بانفراج يعيد التوازن للشخصية موضع الضغط دون أن تصل بها إلى طريق مسدود. لكن العكس هو الصحيح، يخالف العمل الذي نحن بصدده هذه القواعد ويقدم لنا رؤية بأن الحياة يمكن لها أن تكون خطاً واحداً متواصلاً من البؤس، وما هو متوقع أن يكون موضع الانفراج سيكون في الحقيقة موضع تصاعد الازمة للشخصية البطلة في المسلسل الدرامي. 
سيناريو المسلسل مستوحى من رواية العنوان نفسه للكاتب إبراهيم عبد المجيد المولود عام 1946 في المدينة الساحلية، الاسكندرية في مصر والحاصل على ليسانس في الفلسفة وجائزة نجيب محفوظ عن روايته {البلدة الاخرى} والتي ترجمت إلى عدة لغات. يقع المسلسل في 10 حلقات هي عبارة عن تصاعد مستمر للاحداث، فلا يمكن لمشهد واحد أن يمر دون أن يقدم حدثاً جديداً لا يمكن تفويته لمعرفة لماذا تطورت الأحداث في المشاهد التالية. 
إعتمد مخرج المسلسل محمد شاكر خضير الذي دفعني اسمه الذي يبدو عراقيا لسبب ما اجهله، للبحث عنه ومحاولة معرفة خلفيته الفنية لاكتشف أنه طبيب أسنان غير مهنته كما يقول في المقابلة الوحيدة التي ظهر فيها بعد عرض المسلسل، فقد جمعته دراسته الجامعية مع مجموعة من الزملاء المهتمين بالفنون والذين يحاولون أن {يعملوا shift career} كما يصف خضير، أي أنهم قرروا تغيير تخصصاتهم من العلوم الصرفة إلى مجالات اخرى قد تكون فنية كما في حالة 
خضير. 
لكن المشكلة في الاخراج كما يرى محمد شاكر خضير أنها موهبة لا يمكن للفرد أن يعرف أنه يمتلكها إلا اذا صار محظوظا بممارستها بالفعل. يذكرنا هذا بتجربة المخرج التركي نوري بيلج جايلان Nuri Bilge Ceylan مخرج الفيلم التركي الطويل {شجرة الكمثري البرية} الحاصل على السعفة الذهبية من مهرجان كان لعام 2018، والذي يقول بأنه لم يكن يتخيل يوماً أنه سيصبح مخرجاً سينمائياً، لكنه بعد دراسة الهندسة لثلاث سنوات في الجامعة اكتشف أن الهندسة ليست هي المهنة التي يصلح لها لذلك انطلق في رحلة {برية} حول العالم، ابتداء من نيويورك ومرورا بالهند، ليكتشف أخيرا أنه يحب الاخراج لينتج التحفة الفنية الممتدة لثلاث ساعات متواصلة من الدراما الرائعة. فهل يحمل الشاب محمد خضير الطموح ليحصد الجوائز العالمية، ابتداءً من مسلسله الذي رُشحت بطلته إلى جائزة ايمي العالمية للدراما التلفزيونية؟. 
إن للتجديد سحرا لا يقاوم في الفنون، فهو يفتح باباً جمالياً جذاباً في العالم المعاصر المتسارع. العالم الذي ينتج كل يوم فيه حدثاً علمياً يجعل العالم بعده لا يشبه العالم قبله. وعلى ما يبدو أن مخرج المسلسل المصري الشاب قد أدرك هذا وقرر مواكبة سرعة الاعمال العالمية، التي لاقت رواجاً كبيراً في فترة ما بعد الحجر الصحي للوباء العالمي بتقديم أعمال درامية مقتضبة في حلقات معدودة، يمكن لها أن تستمر لاحقا لاجزاء منفصلة تقدم على فترات قد تطول أو تقصر أو ربما يمكن النظر اليها على أنها افلام سينمائية مطولة تقدم على شكل حلقات متسلسلة. 
يجعل مسلسل {في كل أسبوع يوم جمعة} المشاهد العربي يشعر أنه غادر عصر الدراما العربية المطولة والحلقات الروائية الطويلة والمواسم التي قد تستمر الى ثلاثين حلقة أو اكثر تجتمع العائلة الساعة العاشرة مساء لمتابعتها. 
أولا لأنها لا تقدم احداثاً درامية يومية ميكانيكية، بل تصاعداً سينمائياً صادما ومشوقا، وثانياً لان المحتوى يتناول صراعاً نفسياً ورؤية بالغة وصادمة للحياة، تحتاج لوعي على درجة عالية من الاستقرار لاستيعاب القسوة، التي يمكن لها أن تحول الإنسان إلى كائن متوحش، وفي لحظة التباس يمكن للمشاهد أن يتعاطف مع وحشية القاتل بوصفه ضحية وليس مجرماً. 
 يبقى مهماً الاشارة إلى اداء ابطال المسلسل الذين قدموا صورة واقعية للشخصية المظلومة والمعاقة والمقيدة والمشوشة والمغلوبة على أمرها، والمشوهة في مشاهد جريئة وعنيفة ربما غير مسبوقة في الدراما 
المصرية. 
تقدم منة شلبي (او نور أو ليلى) شخصية مركزية تبدو في الظاهر انها تجمع شتات الاحداث وتبقي توازن القوى مستقرا، إلا أنها وبكل واقعية تقودها نقطة ضعف الشخصية (ما يسمى في التراجيديا الاغريقية بالـ Hamartia ) حيث تقدم على الخط التراجيدي الذي يقودها إلى النهاية التراجيدية التي تحقق التعاطف المطلوب مع المجرم وليس مع الضحية بصفتها البطل، الذي يقوده قدره الاسطوري إلى النهاية الحتمية، وليس هناك مهرب من الوقوع في مجرى الاحداث، التي تنتهي بقرار البطلة اختيار نهايتها بنفسها كعقاب تراجيدي عادل بعد الاعتراف بجميع الخطايا وتحمل أوزارها. أما الفنان آسر ياسين فيمثل دوره عودة لأدواره الجريئة بعد انقطاع. 
حيث يقدم دور الشخصية المساعدة للبطلة بدور الزوج المضطرب عقلياً والذي يجد ملجأً في حياته الجديدة مع ليلى، التي تُسلب منها حياتها الاولى (نور) ليكون خلاصها وتكون خلاصه في علاقة مضطربة، تنتهي باختلاط فكرة العقل والاضطراب والتشكيك 
بكليهما. 
ومثل فيلم التركي جايلان يقدم لنا خضير دراما مسرحية تراجيدية عالية الجودة، مستعيناً بنص لكاتب دارس في الفلسفة. 
حيث يقدم العمل مشاهد العودة بالذاكرة ومحاولة تحليل الأحداث للوصول إلى الحل، لكن تعقيدات وتسارع المشاهد لا تقود إلا إلى المزيد من الصراعات، التي تقود الابطال إلى الانسداد الاخلاقي الذي لا يمكن معه الاستمرار بالالتزام المقبول والممكن في مقابل الانفجار النفسي، ومحاولة الحصول على حل العُقد بالحصول على العدالة بإرتكاب الخطأ وليس تجنبه. 
فمثلما نتابع سنان بطل فيلم جايلان يبرر لنفسه قسوته مع والده وسرقة رفيقه {الكلب} لتحقيق العدالة، التي يظن أنه يحققها بالحصول على المال، تستمر ليلى بطلة خضير بسلسلة الجرائم التي تظن أنها ستفكك عقد حياتها السابقة، وتحقق العدالة بالتخلص ممن سببوا لها ولأسرتها الظلم والتهجير. 
ومثلما يقدم جايلان اختلاط الواقع بالوهم في الحوارات الطويلة بين الشخصيات يقدم لنا خضير، مستعملا التكنولوجيا الاستماع إلى حوارات الشخصيات عبر الميديا ليقدم للبطلة الدافع للاستمرار بالخطأ، في سبيل تحقيق العدل الامر الذي قادها الى النهاية التراجيدية المسرحية الاغريقية المتوقعه بالسقوط بيد السلطة والاعتراف بالجريمة والقبول بالعقاب بعد إدراك الوصول إلى نقطة اللاعودة.