العودة إلى الواقع

آراء 2021/10/13
...

  عطية مسوح 
 إمعان النظر في فكرنا العربي الحديث بمختلف ملفاته وميادينه، يوصل الباحث إلى أن مشكلة المرجعية الفكرية هي واحدة من أهم مشكلاته. فمرجع عدد كبير من المفكرين والباحثين هو أحد اثنين: التراث أو الغرب، أي انهم لا ينطلقون من الواقع الموضوعي بقدر ما ينطلقون من أفكار مسبقة مستقاة من التراث العربي أو الفكر الغربي. 
 وأرى أنّ النظر إلى التراث أو الفكر الغربيّ بوصفهما مرجعاً لبحث المشكلات الواقعيّة القائمة، وكذلك السعي إلى استنباط الحلول منهما، يعبّر عن عقدة نقص خطيرة تكمن في نفوس المفكّرين الذين يتبعون هذا النهج، عقدة ذات وجهين يتناقضان شكلاً ولكنّهما يؤدّيان إلى نتيجة واحدة هي إهمال الواقع.
أمّا الوجه الأوّل فهو عقدة النقص تجاه الماضي. ولهذا الوجه مُكوّناتُه الموضوعيّة والحقيقيّة، ففي ماضي الأمّة العربيّة الكثير من جوانب العظمة، وبخاصّة في زمن قوّتها، قبل تفكّك الدولة المركزيّة التي كانت أكبر دولة في ذلك العصر إلى دويلات متناحرة. ومن أهمّ مظاهر تلك العظمة نهوض الثقافة العربيّة التي استوعبت أفضل ما في ثقافات الأمم والإمبراطوريّات السابقة، وأضافت إليها وبنت عليها، فازدهرت العلوم وارتقى الأدب ونهض العمران ونما مستوى معيشة الناس. ارتسمت هذه الصورة الزاهية في أذهان الكثير من المثقفين العرب المعاصرين، وتحوّلت على التدريج إلى موقف تمجيديّ من التراث، حتى غدا نموذجاً ينبغي الاقتداء به واستلهامه في معالجات مشكلاتنا الراهنة. 
أمّا الوجه الثاني فهو عقدة النقص تجاه الغرب، بما هو عليه من قوّة ونهوض ثقافيّ وعلميّ مذهل، وبما حقّقه من نجاحات في بناء دولة المؤسّسات العصريّة، وبما أظهرته أنظمته السياسيّة الديمقراطيّة من تفوّق على أنظمة الحكم السابقة، وبطبيعة الحال على أنظمة الحكم في بلداننا العربيّة، في مجال رعاية حقوق الإنسان. لقد غدت صورة الغرب هذه نموذجاً أيضاً، يقف كثير من المثقّفين تجاهه موقفاً تمجيديّاً، ويرون ضرورة استلهامه في معالجة مشكلاتنا.
أمّا قاعدة عقدة النقص بوجهيها المذكورين فهي سوء الواقع العربيّ، واتّساع الفجوة الحضاريّة بيننا وبين الغرب المتقدّم الذي ما يزال يحثّ السير في طريق تقدّمه، لتزداد هذه الفجوة اتّساعاً كلّ يوم، وليغدو تجاوزها على درجة كبيرة من الصعوبة. ومن الطبيعيّ أن يدفع الإحساس بمرارة الواقع العربيّ إلى المقارنة بينه وبين نقيضيه القديم والحديث، فأمّا القديم فهو ماضي أمّتنا ولا سيّما جوانبه الإيجابيّة المجيدة في الفكر والأدب والعلم، وأمّا الحديث فهو واقع الغرب المتقدّم ولا سيّما ما حقّقه في مجال الديمقراطيّة السياسيّة وحقوق الإنسان، وهذه المقارنة هي التي ولّدت عقدة النقص وحدّدت وجهيها.
وعلى وجهي عقدة النقص هذين يقوم القسم الأكبر من النشاط الفكريّ والبحثيّ الرامي إلى دراسة مشكلاتنا السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، لذلك نجده نشاطاً ذا اتّجاهين أيضاً. فالذي تحرّكه عقدة النقص تجاه الماضي، يندفع إلى البحث في تراثنا الفكريّ وبطون كتب الأسلاف عن حلول لمشكلات الحاضر، ويرى أنّ طريق النهوض هو استلهام بل إعادة إنتاج تجربة أسلافنا في الحكم، وبناء العلاقة بين الحاكم والمحكوم على غرار ما كان في أيّام هذا الخليفة أو الأمير أو ذاك، ويرون أنّ العلّة الجوهريّة لتخلّفنا هي الابتعاد عن صواب الأجداد والانزلاق في خطأ تقليد الآخرين. 
أمّا الذي تحرّكه عقدة النقص تجاه الغرب وحضارته، فيندفع إلى البحث عن الحلول في ثقافة الغرب فقط، ويرى أنّ علينا انتهاج الطريق ذاته الذي أدّى إلى نهضتهم الهائلة، دون الاكتراث لأيّة خصائص مجتمعيّة قد تربك هذا النهج عندنا، وقد تؤدّي إلى ردود أفعال تنقل بعض من يُفترض أن يكونوا في صفّ الحداثة إلى صفّ آخر. 
هذان الأمران المتناقضان يؤولان إلى شيء واحد هو مجافاة الواقعيّة في النظر إلى المشكلات ودراستها ومعالجتها، الأوّل لأنّه يُغفل عامل الزمن، فبيننا وبين ماضينا الزاهي أكثر من ألف عام بما حملتْ من اختلافات تراكمت وأصبحت جذريّة، والثاني لأنّه يُغفلُ خصائص البيئة والشروط المحلّية التي تتكوّن فيها المشكلات. 
وما يزيد الأمر سوءاً هو أنّ كلّاً من الطرفين يمشي في رؤيته إلى أقصاها، فالماضويّون يسفّهون التجارب النهضويّة الغربيّة ولا سيما الديمقراطيّة السياسيّة، والفكر السياسيّ بتيّاراته المتنوّعة، والثقافةَ الغربيّة بوصفها ثقافة علمانيّة، وحجّتهم في ذلك أنها تلحق الأذى بمعتقداتنا. والمتعلّقون بالتجربة النهضويّة الغربيّة يدعون إلى التمسّك بكلّ تفاصيلها، واستنساخ حلولها، وينظرون إلى تراثنا العربيّ الإسلاميّ نظرة سلبيّة متنكّرة لما فيه من جوانب إيجابيّة هائلة، في الأدب والفلسفة والفكر السياسيّ. 
التراث يمدّنا ببعض ما يمكّننا من معرفة الكثير من مكوّنات خصائصنا النفسيّة والسلوكيّة، ووعي التراث هو جزء من وعي الحاضر، واحترامه هو احترام للذات، لكنّ هذا لا يعني الاستسلام لكلّ ما فيه واستنباط الحلول منه وتجاهل حركة الواقع وتطوّر الوعي. والإفادة من تجربة الغرب النهضويّة، في مجالات الديمقراطيّة السياسيّة والثقافة والنظرة النقديّة للتراث، هي عامل حاسم في وضعنا على طريق النهوض،على أن نجيد وضع ذلك كلّه في بوتقة واقعنا، دون أن نكون مجرّد مقلّدين غير مبدعين.
 
كاتب وباحث من سورية