ازدهار الشمال وتراجع الجنوب.. تقصير دولة أم فشل مجتمع؟

آراء 2021/10/17
...

 بقلم د.سلامة الصالحي
يقال إن الحضارات تنتقل بخطوط العرض من الشرق الى الغرب ولا تنتقل من الشمال الى الجنوب أي بخطوط الطول، ويقال أيضا إن مصطلح الحضارة انتهى وصار من الماضي وبقيت مصطلحات المدنية والحداثة، وهذا يجرنا الى التساؤل دائما عن تقدم وازدهار الجزء الشمالي من الكرة الارضية واندحار وتراجع يصل مرحلة التخلف أحيانا في الجزء الجنوبي من الكرة الارضية ويدخل في هذا السياق، معايير كثيرة تتضمن كل ما يتعلق بطبيعة الانسان والجغرافيا والجيولوجيا والمناخ، أما أن تجد في بلد واحد جغرافيا وتاريخيا وانسانيا هذا البون الشاسع من الفرق في البناء والاعمار والازدهار بين الشمال والجنوب، فإن هذا يجعلنا في ريبة من الامر، كيف يمكن أن يزدهر شمال البلاد ويتراجع الجنوب والوسط،
وهي مناطق ذات سمة تاريخية وحضارية أثرت العالم وبدأ منها سلم تطور البشرية، وتعد النهضة العمرانية مظهر من مظاهر العقود الاخيرة في بلدان كثيرة مجاورة وقريبة ومنها تركيا ودول الخليج، التي بدأت نهضتها وقت انشغال العراق بالحروب والغزوات، وتحمل كاهل حصار يعد من أشد الحصارات في التاريخ جعل هناك ثغرة زمنية هائلة تطورت خلالها هذه الدول ونهضت نهوضا تاريخيا، في حين تراجع العراق وصار مشغولا في توفير الخبز والحفاظ على قدر بسيط من كرامة وحياة الناس، وبعد انهيار النظام وسقوط المدن والاحتلال وتغيير النظام الذي حدث بطريقة عنيفة ومدمرة للبنى التحتية  قبل الحصار، وبعده وشيوع الفوضى وانتهاك حرمات المال العام من قبل العامة، التي اعتدت وبشكل سافر على البنوك والمستشفيات وكل مؤسسات الدولة بعملية انتقامية لا مثيل لها، أدت الى ظهور طبقة جديدة من الاغنياء الذين استولوا على اموال البنوك الصغيرة ومعسكرات الجيش ومقدرات الدولة، وكان شمال الوطن سوقا تصريفية للكثير من هذه الموارد التي تم شراؤها بأثمان بخسة. ومن هنا بدأت البدايات الخاطئة التي جعلت من البلاد في تراجع مستمر، فصار غسيل الاموال شائعا وظاهرا للعيان وارتفعت العقارات والاراضي بشكل لم يسبق له مثيل، لتوفر المال المسروق واللص المستعد للشراء بأي ثمن ودخلت للبلاد بضاعة العالم البائرة ونفايات السيارات، وكانت هذه الفئة من الاغنياء اللصوص تشتغل على قدم وساق، من دون أي وازع او ضمير على تدمير كل ما يصادفها من أسس البناء الصحيح  فكيف للص وسارق أن يصحح، وهو الخطأ، واكتفى الشرفاء بالنظر دون ان يستطيعوا تغيير شيء تحت سطوة السلاح والعنف والخوف. 
هذا ماحدث في الوسط والجنوب  في حين كان الشمال بعيدا عن أي ضربة تستهدف بناه التحتية أو تدمر مؤسساته، لأنه كان يعيش بعيدا عن سطوة وسيطرة النظام السابق.
ما الذي جعل الشمال يختلف جذريا عن الجنوب؟ عندما تدخل أي مدينة من مدن الشمال وما يصطلح عليه كردستان العراق فانك تتفاجأ بالعمران المزدهر والبنايات الفخمة والمجمعات السكنية المشابهة الى اوروبا، والتي اتخذت اسماء دول اوروبية كالقرى الانكليزية والايطالية وغيرها، مقارنة بالوسط والجنوب فانك تقع في صدمة ونكوص ليس حقدا بل ألم لما حل من تراجع وتوقف لأي مظهر من مظاهر الازدهار والعمران الحقيقي، بدءا من آخر نقطة في الجنوب الغني جدا حتى 
مشارف ومقتربات شمال البلد، بل إنك على بعد مئة متر من هذه المقتربات سترى الفرق الشاسع بين هذا الشمال ووجنوبه، بدءا من الموصل وكركوك حتى الفاو.
هل صنع هذا الفرق الدولة أم المجتمع، نعم ساهم في البناء والازدهار الدولة والمجتمع، في الشمال وساهم في التراجع والنكوص في الجنوب الدولة والمجتمع،  لا ينكر أن الطبيعة الجميلة والجبلية أسهمت بإبراز جمالية هذا الازدهار، ولكن الجنوب يمتاز بالأرض المنبسطة السهلة وغير المكلفة بالبناء  وتوفر المياه وسهولة البناء امام الطرق الجبلية الوعرة، وهذا ما نراه في الامارات على سبيل المثال لا الحصر، اذا لم تكن الطبيعة هي السبب، ولكن الانسان وطبيعته وما ينطوي عليه، لم يتعرض الشمال الى اي عملية تخريب اقتصادي او اجتماعي او مؤسساتي، مثلما حدث في الجنوب، هل سطوة الاحزاب وقوة سلطة الاقليم، أم طبيعة الانسان المحبة للارض والمحبة للنظام والعدالة، أم أنهم استخدموا قانون الاستثمار بالشكل الصحيح عكس الجنوب، الذي يمنح المستثمر كل شيء، في حين يشتغل العراقي كعامل من الدرجة العاشرة أو مرفوض من قبل شركات الاستثمار؟، وهذا مانراه في كل سلوكيات الشركات الاجنبية التي منحت صلاحيات غريبة وعجيبة لم تمنح لها بأي دولة في العالم، فالبلاد تمنح الارض والمال والمستثمر لا يحتاج أي جهد في توفير العملة الصعبة او شراء الارض، ومع هذا يبقى العامل العراقي خارج حسابات هذا القانون وبالنتيجة تفشت البطالة ونشطت الجرائم ،ودخلت كثير من الناس في نفق العوز والفاقة، حتى أن الاغنياء اللصوص جعلوا من البلاد تمر بموجة غلاء فاحش في كل شيء، أعطى فرصة مهمة للتجار السيئين بادخال البضاعة الرخيصة والسيئة وبالنتيجة تراكم نفايات لاحصر لها ولا معالجة، فنحن في عصر البضاعة السائلة التي تستخدم لمرة واحدة أو وقت قصير ومن ثم تجد طريقها الى مكبات النفايات التي صارت المظهر الرئيس في مدن الجنوب وضواحيه.
ماذا يحتاج النهوض والازدهار؟
يحتاج النهوض والعمران وازدهار الحياة والمجتمعات الى مجتمع مدني حقيقي وانسان محب وصادق في التعامل مع بلاده ومجتمعه، فالوعي الانساني يزداد تطورا مع هذه الثورة العملاقة التي توفرها وسائل الاتصال السريعة والتكنولوجيا المتطورة، تبدأ مرحلة ازدهار البلدان، بالانسان وتنتهي به، فحين يتولى السلطة أشخاص مخلصة وتكنوقراط وتخطط للبناء وليس للهدم والاستحواذ على المال والقدرة، وفي مجتمع واع ويراقب ما يحدث ويرفض ما يحدث من اخطاء جسيمة، أدت به أن ينحسر دون المجتمعات المحيطة به في بركة اليأس والبؤس التي تحيطه من كل جانب، ما يحتاج اليه الجنوب، أن تتخلى الناس عن نزاعاتها العشائرية والتي تصل الى حد التراشق بالاسلحة الثقيلة، ما يؤدي الى انتهاك القانون واندحار المجتمع في هاوية مخيفة، من التراجع والذل، وأن تتخلص هذه المجتمعات من الانانية وحب الذات وانكار الاخر وعدم تقبله، أن تتخلص من فرض الافكار المتطرفة على الناس بحجة الاديان والمذاهب وان تبقى ممارسات الدين شخصية بحتة وسرية بين الانسان وربه، وألا يفرض على الناس تبعية تسلب ارادتهم وقوة بأسهم، أن يتحلى الناس  بقيم الحب للبلاد والارض والاخلاص لها بضمير ووجدان نقي يتخلى عن انانيته وشعوره السلبي اتجاه بلاده، هذا الشعور الذي جعل الناس تتخذ من البلاد جيبا لتوفير المال والهجرة الى البلاد المجاورة والعيش فيها، تحت انانية مقيتة بترك البلاد وتصدير عملتها الصعبة الى هذه الدول للعيش هناك، تحت مسميات توفير الخدمات والبلاد الجميلة فيصبحون عبئا ومتطفلين على هذه البلاد، ان تحترم الطفولة ولا يتاجر بها في تقاطعات الطرق، وان تحترم كرامة المرأة وتدخل سوق العمل ولا تصبح سلعة، الخطاب موجه لكل من يحب هذه البلاد ويحلم أن يجعلها جنة غناء، أن تتشجر المدن وتنظف من تراكم القمامة، أن تتأسس المدارس ببناء جديد ومبهج. وأن تكون الطرق والمدن مظاهر للحياة وليس البؤس. ونبدأ من حيث انتهى الاخرون، ما حدث من ازدهار في الشمال وتراجع في الجنوب كان سببه الانسان، وابناء هذه البقعة من البلاد، نحتاج الى مخلصين بسكون الخاء ومخلصين بفتح الخاء ينهضون بالجنوب نهضة لا تراجع 
بعدها.