أثر التلقّي والتقليد في الوسط العلمي

آراء 2021/11/01
...

  د. صائب عبد الحميد
حين ينشأ الفرد على التلقي السلبي، سيكون هذا الطريق هو منهجه المعتاد في اكتساب العلوم والمعارف، فإذا ما ترقى في سلم التحصيل اصبح يردد افكار ومقولات المصادر التي استقى منها، والاساتذة الذين تتلمذ عليهم، وكأنها الحقيقة الأوحدية التي لا ينبغي ان ينازعها شيء. ولا ينحصر هذا النوع من التلقي في الاغلب الاعم في المناهج وطرق البحث والنظر، بل يتعداه حتى الى دقائق الافكار والمفاهيم وحلول المسائل ورد الشبهات. 
 
بل قد يبلغ به الأمر احياناً أن يرى أية محاولة لمناقشة ونقد افكار وآراء ذلك المصدر او الاستاذ بمثابة انحراف عقيدي خطير تجدر مواجهته وقمعه بكل اسلوب مجدٍ، وإن كان الحديد والنار. ولما كان (..كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ..)، فمقلّدو المصادر الاخرى والاساتذة الآخرون يحملون عليه بمثل ما يحمل عليهم، وكل منهم في نظر الآخر منحرف ضال، بل قد لا يستحق الحياة ابداً.
وفي كل الأحوال فان أحدهم لا يعود إلى نفسه لينظر في حقيقة ما يقوله خصمه فيه، وانما يندفع بالقوة ذاتها إلى تقريع خصمه والتنكيل به، لان كل واحد يرى انه قد أتمّ بناء نفسه ومعارفه، فهي اعلى من ان يرقى إليها الكلام.
بمثل هذه الروح تتمسّك الشعوب بأعرافها وتقاليدها، فلا يدان الرجل الذي يقتل زوجته أم اولاده لانها نسيت فقدّمت له الشاي قبل ان تضع فيه السكر، لا يدان لانه ليس للمرأة في مجتمعه وجود فوق هذا، وسوف لا يجد ادنى مشكلة في التزوج من أخرى في اليوم التالي لجريمته هذه.
ولا بحث ولا مجرد سؤال بين مؤمني فصيلة الهنود الذين يعبدون نهراً وقد جعلوا له عيداً سنوياً يرمون فيه خمسين فتاةً باكراً في بطن النهر، ثمناً لحمايته اياهم! لا بحث لان الفتيات انفسهن يتدافعن على نيل هذا الشرف، حتى يضطر الزعماء الروحانيون الى انتخاب خمسين منهم من بين المئات المتطوعات، اما بحسب السبق إلى التطوع، واما بالاقتراع بينهن!
ترى كيف ترقّى هذا الروحاني إلى درجة الزعامة، أليس بالدرس والعلم والمواظبة؟ لكن درسه وعلمه لم يزده إلاّ تمثيلاً لهذه الخرافة وتأصيلاً لها بكل ما تعلّمه من ادوات الحِجاج والجدل! وكم من كبار المبدعين في علوم الفيزياء والكيمياء وطبقات الارض مازالوا يحافظون على طقوسهم الخرافية بكل اجلال وتقديس! طقوس تلقّنوها تلقيناً منذ الصغر، فكانت كالنقش على الحجر، لا تزول او يزول الحجر! بل ربما حتى يزول البشر 
نفسه.
فهل في هذا مفارقة؟ كيف لا تفعل هذه العلوم فعلها في تحرير العقل من عقال التلقين الخرافي؟ ان هذه العلوم تزيد في حجم ونوع المعلومات والمعارف التي يحملها الفرد، وليس من الضروري ان تعيد نظم طريقة التفكير لديه، انها قد تزيد في الحافظة، بل في القدرة على الفهم والاستيعاب في هذا الباب أو غيره من أبواب المعارف، لكنها قد لا تعود إلى بناء العقل وسليقته في التلقي والاستلهام، فقد يبلغ المرء اعلى درجات العلم في تخصصه، لكنه يبقى في فلك هذا التخصص مفكراً ومحللاً وربما مبدعاً، فيما يحافظ الذهن على ما تروّض عليه من اساليب التلقي، فتراه يغفل حتى اموراً واضحة يلتفت إليها الصغار ويقطعون اشواطاً في هضمها ونقدها، واكثر ما تكون هذه الظاهرة وضوحاً في ميادين الاعتقاد والمفاهيم التي تتصل بها.
والامثلة في هذا الميدان من الكثرة بمكان في تاريخنا القديم والمعاصر، فكم من عملاق في تخصصه يحلّق في تفصيل دقائق المسائل في اكثر العلوم تعقيداً، حتى اذا تناول مسألة تعود إلى الاعتقادات والتقاليد السائدة رأيته يتشبث بكل ما هو واهٍ ومتهافت وداحض من الاقوال والآراء! اننا لا نجد فرقا كبيرا من هذه النواحي بين العامي الساذج وبين المتفقّه، إلاّ في القدرة على توظيف العلم في تبرير وتأصيل التقاليد السائدة والمفاهيم، حتى ما كان منها مصدره الخرافة، او الظروف السياسية القاهرة، او تدنّي الوعي الديني العام.
ذو العقل النقدي وحده هو الذي يستطيع ان ينجو من أسر التقاليد التي يتلقاها الآخرون تلقي المسلمات والبديهيات. وهو الجدير بأن يضع هذه (المسلمات) امام طائلة من الاستفهامات وأدوات البحث، حتى يعرف حقيقة موقعها في سلّم المعرفة.
إن مبدأ الشك بالكليات العامة ليس مبدأً ديكارتياً فقط، انما هو مبدأ اسلامي أصله القرآن الكريم، فلما عطّله المسلمون تحت وطأة التقليد والتلقين، ودعا له ديكارت، نسبوه إليه بعد ان رأوه كفراً بواحاً! فالقرآن هو القائل في اولئك: (...إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْاًنفُسُ...). والقائل: (..قُلْ هَاتُوأ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
انه العقل النقدي الواعي الذي لا يستسلم للعواطف والظنون، هذا العقل هو سر الاختلاف بين عالِمَين كبيرين: يرى احدهما أن هناك مظاهر لا بد من تصحيحها وتهذيبها وبين آخر يدعو إلى تركيزها بحذافيرها وبكل مستحدث فيها، ويصنّف في ذلك رسائل وكتباً، انه الفرق بين عقل نقدي حرّ وبين آخر متلقٍ صنعته وصاغته هذه التقاليد ذاتها فهو لا يرى حقيقة غيرها.