المقدّس وحرية التفكير

آراء 2021/11/06
...

  د. صائب عبد الحميد
الدين عنصر جوهري، فاعل ومؤثر في حياة الانسان والمجتمعات. 
 وعبر التاريخ كان الدين مرافقا لوجود الانسان، فاعلا أساسا وأولا في تشكيل الانماط الثقافية للجماعات البشرية.
 فالدين ليس بالشيء الطارئ في حياة الانسان، ولا هو بالعرض الخارجي لصيرورتها.
 
الدين، او الايمان، أيهما نختار ويكون محل بحثنا، لا نستطيع إلا أن نجده روحاً متصلة وقوة محركة مستدامة. ليس بالضرورة أن يكون بالتلقين، فحكاية حيّ بن يقظان ليست اعتباطاً ولا مجرد تخيلات فيلسوف ميتافيزيقي. انها ليست اقل من اعادة اكتشاف كنه الحياة وأسرارها الخالدة التي يمثل الدين او الايمان روحها ومعناها.
 وبعد كل ما انتجته الفلسفة الحديثة والمعاصرة، لم يعد هناك كثير جدوى في مناقشة المادية البحتة، أو الشك الدائم.
 ولم يجد روسو نفسه بحاجة الى كبير جهد وعناء في إثبات أركان عقيدته الثلاثة التي استنطق لأجلها الكون والحياة لتكون برهانية، فكانت أقرب الى البديهيات(جان جاك روسو: دين الفطرة، ص 40، 43، 56). 
فكل مجتمع يتدين بدين معين، ويبحث في ذلك الدين عن الاجابة على ما لديه من تساؤلات تخص الخَلق والوجود والحياة وأنماط العلاقات، ولا بد لأي دين أن يوفر لأتباعه الاجابة على تلك التساؤلات، إجابة سوف يتبناها أتباعه، إما اتباعا للبرهان، وإما إذعانا كما يقتضيه الايمان.
ومن الطبيعي أن يجد أتباع كل ديانة أنهم ملزمون باتباع ديانتهم، بما تتضمنه من معتقدات ومن أحكام وآداب. كما أنه من الطبيعي أيضا حصول الاختلاف بين الديانات كافة في معتقداتها وفي أحكامها، اختلافا كليا أو جزئيا. وأن هذا الاختلاف سيؤدي بطبيعته الى تحزب كل جماعة لدينها ومعتقداتها. الامر الذي يتفاقم كلما حصل نوع من الاحتكاك السلبي بين مجموعتين تدينان بعقيدتين مختلفتين. وهذا بدوره سينعكس على الموقف من المقدسات التي تتضمنها الديانات والعقائد، فيشتد التمسك بها ويُصار الى المبالغة في التوسع في خلق مقدسات جديدة تبعا لمواقف وأحداث تاريخية أضفت طابعها على هذه الجماعة أو تلك. وغالبا ما يتسبب ذلك بمزيد من الانغلاق والتطرف في الانحياز، الى الحد الذي يصبح فيه البحث والنظر والدراسة والتحقيق في القضايا الدينية أمرا محاطا بكثير من الخطوط الحمر التي تصعب مقاربتها، فيتم الاجهاز على حرية التفكير، وحرية التعبير عن الرأي، وحرية الكشف عن أبحاث جادة ذات صلة بتلك المفاهيم. 
وفي كل هذه الاحوال يقف العقل متسائلا، أين بإمكانه أن يتحرك؟ وما هي مدياته المسموح بها؟ وهل تتعارض استنتاجاته غير المقيدة بالضوابط العقدية مع المقدسات التي تدين بها هذه الجماعة، أو تلك الاخرى، التي تفرض على الوسط السياسي هيمنتها؟ 
هل يمكن للعقل أن يقتحم فضاءات اُسبغت عليها القدسية، حتى لو لم تكن في حقيقتها كذلك؟ 
ولعل في مقدمة هذه التساؤلات يأتي التساؤل عن سر النظرة الاحادية، وعن منطلقات التطرف في الدفاع عن المقدسات، وما إذا كان بالإمكان نهج سبل عقلانية في 
ذلك كله.
ولا بد من الاخذ بنظر الاعتبار حقيقة أن موقف الدين من حرية التعبير لا يتم النظر فيه من خلال النصوص الاولى للأديان، بقدر ما يرجع فيه الى التشريعات الفقهية للديانات والاحكام التطبيقية التي مارستها الانظمة الدينية على اختلافها. فربما تجد في النصوص الأولى للأديان مساحات أوسع للحرية الفردية، ولحرية التفكير، وحرية التعبير، لكن هذه المساحات تضيق تدريجيا على مر العقود والقرون، عن طريق التشريعات المستحدثة والأحكام الاجتهادية التي تخلقها التطبيقات الدينية العملية، حيث يراها أصحابها أنها المعبّر الوحيد والاصيل عن حقيقة الدين، وأنها التفسير القطعي لأحكامه. ومن هنا أصبحت تعبر عن رسالة الاديان عند أصحابها على الاقل.
ببساطة من هذا التقديم نصل الى مركز الاشكالية مدار البحث، فمن حق كل ذي إيمان أن يصون إيمانه، داخلياً، بتطويع ميوله ورغباته وشهواته ونزعاته بوفق ما يقتضي إيمانه، وخارجياً بتدعيم مقومات إيمانه وتعزيزها بالبراهين العقلية والوجدانية، والدفاع عنها أمام منتقديها. هكذا نشأ علم الكلام والجدل الديني دائماً، بلا أدنى فارق بين فكر ديني وآخر.
ومع أن علم الكلام هو عملية تفكير ونقد، إلا أنه يقع في إشكالية لم ينج منها أحد إلا نادرا وفي نطاق محدود جدا، تلك هي أن علم الكلام يسير دائما باتجاه واحد، اتجاه الدفاع عن المعتقدات الذي يدين به المتكلم وطائفته، وتدعيمها بما يستطيع من براهين، ثم الطعن بما خالفها وتفنيد حجج الخصوم. وجراء هذا لا يجد المتكلم ضيرا في ارتكاب المفارقات والمغالطات مادام هو في صدد تحقيق هدفه في الدفاع عن معتقداته، وفي تفنيد حجج خصومه. ويذهب سائر علماء الكلام الى ما هو أبعد من هذا، بإضفاء القدسية على مقولات تم التواضع عليها، رغم أنها لم تكن تحظى بهذه القدسية عند تكوّنها وانطلاقها أول مرة. وعندئذ تزداد سلطة المقدّس الذي لم يكن في الأصل مقدسا، وتتفاقم سطوة الخطوط الحمر المرصوفة أمام حرية التفكير والنقد والتعبير. 
ذلك أنموذج لأزمة تعترض التفكير الديني وتصيبه بالتعثر والحرج امام المتغيرات، وأمام ضرورة مراجعة الذات.