هوية الدولة ومحددات التجريم

آراء 2021/11/07
...

  د. نعمة العبادي
 
مثلت {الدولة} الموضوع الأساس لمنتج علم السياسة، وقد تطورت وتضاعفت الادبيات المتعلقة بـ (فكر وتنظيم وبناء وتحديات وتنمية ونماذج واشكال وتحولات) الدولة في القرنين الاخيرين، بما يساوي مئات أضعاف ما انتجته الادبيات السياسية في مراحل سابقة مع أهمية الادبيات الأم التي تأسست عليها الكثير من الافكار، وكان الجدل كبيراً حول مسارين رئيسين في ما يتعلق بالكتابة عن الدولة وشؤونها، الأول يتحدث عن صورة نظرية مفترضة مبنية على تأصيلات فكرية معظمها مستق من الفلسفة السياسية، والثاني، يتعاطى مع نماذج وصور واقعية لتشكلات الدولة بوصفها مرجعيات تتم محاكمة وقياس الدول على اساسها.
يرى الاتجاه النظري هوية الدولة كخلاصة طبيعية لحاصل جمع (توجهات وخصوصيات وتمثلات السكان بمختلف تنوعاتهم ورؤاهم، مصاغة بطريقة يمكن تمثلها في الهوية الرئيسة، ومضافاً لها الخصوصية التاريخية والحضارية والجيوستراتيجية للكيان)، في ما تتبدل هوية الدول بشكل أسرع إيقاعاً في المنهج الواقعي، وهي اقل تمثيلاً للرؤى العميقة للسكان.
اختطفت الأنظمة الشمولية والديمقراطيات المشوهة دولها بشكل أعادت فيه صياغة هويتها وفق منظورها الخاص، بحيث اصبحت هوية الدولة تساوي توجهات السلطة، وفي بعض النماذج تساوي مزاج الحاكم النافذ.
على كلا المنظورين تتأسس السياسات العامة التي تنطلق منها القوانين، وفي مقدمة ذلك التحديدات التجريمية التي ترسم منظور الدولة (لما يعد مجرماً وممنوعاً ومعاقباً عليه)، لذلك تتسع وتتشدد سياسات التجريم في ظل الانظمة الشمولية خصوصاً في ما يتعلق بالشق السياسي، بخلافه في الانظمة الديمقراطية التي تتسع فيها مساحة المباح من الافعال، ولا يتوقف الامر عند هذا الحد بل ينعكس بشكل واضح في توصيف الافعال المجرمة وطبيعة العقوبات المسندة لها، وهكذا يصبح توصيف التخوين والتآمر والعمالة وغيرهن من الاطلاقات السهلة في منطق تجريم الانظمة الشمولية، وتتضاعف الخطورة في المرحلة التي تختطف فيها السلطة الشمولية حتى القوانين والتشريعات التي وضعتها وآمنت بها، بحيث يتصرف الجهاز الشرطوي ووكلات الضبط والتنفيذ بطريقة ارتجالية مبنية على مرجعيات شخصية واجتماعية وتوجهات نفسية للنظام دون ان يكون ذلك محددا بقانون.
تزامناً مع تعاقب الانظمة، اختلفت توجهات التجريم في العراق، وبلغت الامور ذروتها في التضييق والتشديد والتعسف في ظل اعتماد (مجلس قيادة الثورة المنحل) كمرجعية عليا لتحديد سياسات التجريم والمحددات العقابية، ولذلك تعرض قانون العقوبات العراقي رقم (111) المعدل لسنة 1969 الى حزمة كبيرة من قرارات المجلس التي صارت بديلا عنه في اكثر من بند عقابي، وما زال بعض هذه القرارات نافذا.
على الرغم من مضي قرابة عقد ونصف على كتابة الدستور الجديد إلا انه لم تتبلور بشكل دقيق وواضح هوية الدولة العراقية خصوصا في منظورها الفكري العميق، لذلك ترى الجهات السياسية ذات التوجهات الدينية تسحب هوية الدولة اليها او تدعي انها هوية دولة دينية ثم تقوم بتحديد مساحة (المباح والمجرم) على هذا الاساس، والفعل ذاته تصنعه الاتجاهات العلمانية، وينقسم الشعب بذات الانشطار الطولي تجاه اي موقف او فعل.
ما هو الممنوع والمسموح وفقا لما تضمنته فلسفة الدولة بحسب الدستور، وفي اي حدود نقف مع هذا الفعل او ذاك، والى مدى لا بد ان يكون الدين حاضرا في توصيف وتحديد الافعال، كلها امور لم تنجز بشكل دقيق، ولا يزال الاجتهاد التنفيذي يتوسع بشكل مضطرد مناطقيا، فشرطة بغداد تختلف عن شرطة الرمادي وميسان، وهكذا الجزئيات الاخرى.
خلال الايام الاخيرة دار جدل كبير حول فعاليات مهرجان بابل، وتضاربت المواقف والتوجهات بشكل فردي وجهتي من دون ان يكون هناك امر واضح وقاطع يحدد مديات المسموح والممنوع، ويضع افعال السلطة بشكل واضح ضمن المشروع او خارجه، ويحدد شرعية المعارضة من عدمها.
مما لا شك فيه، ان هناك تحولات فكرية وثقافية عميقة مرت بالمجتمع والدولة العراقية في الثماني عشر سنة الماضية، وهي امور تقتضي لزاما اعادة النظر في سياسات التجريم والعقاب، والذي يعني نظرة جديدة لقانون العقوبات، والاهم منه عقلنة جديدة للجهاز التنفيذي وفق المتطلبات الجديدة للدولة.