عقلنة العاطفة

آراء 2021/11/13
...

 د. صائب عبد الحميد
ما نحن بحاجة اليه، على سبيل اصلاح الفكر الديني، ليس الفصل بين الايمان وبين العاطفة والوجدان، فهذا أمر ممتنع الى حد كبير، انما الذي نبحث عنه هو عقلنة العاطفة والوجدان قدر الامكان. فالعاطفة والوجدان لا يمكن اخضاعهما تماماً للعقل والبرهان، لكن بالامكان عقلنتهما وتهذيبهما، على نحو ما تتم عقلنة وتهذيب الشهوات والنزعات الذاتية.  وفي هذا الميدان تتكرس جهود العقلاء، بحثاً عن خطى ومناهج اكثر عقلانية، ليس فقط في فهم الدين واستيعاب أهدافه ومقاصده، بل أيضا في الدفاع عن الدين وعن المقدسات، أعني المقدسات الثابتة في النص التشريعي الأول، وليست المقدسات التي تتوالد مع انتشار الخرافة.
 وأهم ما يمكن ان ترجع اليه وتستمد منه هذه الجهود العقلانية هو البعد الانساني والبعد المجتمعي في الدين نفسه. 
وهنا ثمة حقائق لا بد من الوقوف عندها بجرأة كافية:
الحقيقة الاولى: أن تراثنا الكلامي خاصة لم يتعرض لجهود نقدية حقيقية، فالثابت دون مواربة أن مواقفنا من تراثنا الكلامي هي مواقف التقديس والتبجيل، ومنهاجنا في التعاطي معه هو منهاج التقليد أو الاتباع. أما أن يقوم أتباع كل مذهب او مدرسة كلامية بإعادة قراءة متون أسلافهم وفق منهج نقدي متين وموضوعي، فهذا ما لم يحصل إلا نادرا، وهذا النادر ليس سوى جهود فردية عادة ما تكون عرضة للنفي والطرد من دائرة المعتقد. 
أما الحقيقة الثانية: فهي مشتقة من الأولى، ومفادها بأنه من دون العودة الى تراثنا الكلامي خاصة والفقهي من بعده، بدراسات نقدية منهجية موضوعية شجاعة وشاملة، فاننا ينبغي الا نطمح الى أكثر مما نحن فيه من تراجع على مستوى الوعي، يلازمه تصاعد مخيف على مستوى العواطف والفهم السطحي المشوه للدين ومبادئه، وهذا ما ينتج مزيدا من نزعة التطرف والاستعداد للعنف، الذي لن يتوقف عند مديات محدودة وأساليب معينة، ولا عند جماعات خاصة بعينها.
والحقيقة الثالثة: هي إشكالية التصنيف الاحادي للهوية، إذ عمد الكثير الى اعتماد الانتماء الديني عاملا أوحد في تحديد وتشكيل هوية الفرد، متجاهلين العوامل الاخرى الكثيرة والعميقة الأثر في التشكل الهوياتي، كالعرق، واللون، والجنس، ومصادر الثقافة، وغيرها، وأهمها عامل المواطنة.
هذه النزعة في التصنيف الاحادي يتبناها عادة مهندسو التنظير للصراع الحضاري والأممي بين الشوب والامم، كما تتلاعب بأوتارها القوى السياسية الدولية والاقليمية والمحلية كوسيلة لتحشيد الانصار من أجل تحقيق أغراض ومنافع سياسية ومصلحية نفعية لا تمت للانسان وهويته الحقة بصلة جذرية. ومن هنا يجد هذا التصنيف أنصاره عادة بين الدعاة المتحمسين لانتماءاتهم العقدية. إن أية متابعة لخطابات وكتابات هذا الصنف الاخير تكشف عن وحدة منهجية يرجعون اليها على الرغم من توزعهم على ديانات وطوائف مختلفة، وحتى متصارعة ومتناحرة. 
إذ أصبح الاتجاه وفق هذا المنهج، في الدفاع عن الدين والمقدّس، اتجاه واحد، دوغمائي بحت، يعمل على تهييج العواطف، وتسطيح الوعي على نحو مرعب، بدلا من الاتجاه الى بث الروح في والعي المجتمعي من خلال المنهج العقلي والنقدي المقارن، الذي يكشف عن مزيد من عناصر تشكيل الهوية، والمزيد من المشتركات الانسانية والمجتمعية، وفقا للمعتقد الانساني المعروف: “الناس متماثلون في كل مكان في العالم”. هذا الاعتقاد الذي يستفاد اسلاميا أيضا من النص القرآني الشمولي: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم). 
وبالإجمال لا بد من الاعتراف بأن طبيعة الفكر البشري تقوم على ركنين جوهريين في مجال الايمان والاعتقاد: 
الاول: أن من حق كل ذي ايمان أن يصون ايمانه، داخلياً، بتطويع ميوله ورغباته وشهواته ونزعاته بوفق ما يقتضي ايمانه، وخارجياً بتدعيم مقومات إيمانه وتعزيزها بالبراهين العقلية والوجدانية، والدفاع عنها امام منتقديها. هكذا نشأ علم الكلام والجدل الديني دائماً، بلا ادنى فارق بين فكر ديني وآخر.
والركن الثاني مفاده بأن الناس كلهم سواء في هذا الحق، المؤمن والملحد، فليس لأحد أن يسخر من أحد أو أن يستخف بمعتقداته وينال من مقدساته.
وعلى هذين الركنين يقوم مبدأ الاعتراف بالآخر، ومبدأ التعايش، واخلاقيات الحوار.
ويتردد الموقف من هذين الركنين من فرد الى آخر، ومن جماعة بشرية الى اخرى، بحسب رجحان أحد البعدين، العقل او العاطفة، في طبيعة التعاطي مع الفكر او العقيدة والايديولوجيا. وكلما كان الرجحان لصالح كفة العاطفة على حساب العقل، تراجعت فرص التعايش، وتصاعدت فرص الصدام والعنف والانطواء أو الانغلاق على الذات.
إن هذه المواقف ليست في حقيقتها نابعة من النصوص الاولى للديانة، بقدر ما هي جزء من معطيات أفرزتها عوامل تاريخية، سياسية ومجتمعية، تركت أثرها القسري على طبيعة العلاقات بين الجماعات البشرية المتباينة عقديا وفكريا.
من هنا تأتي أهمية العمل على:
تهذيب العاطفة الفردية والجماعية وترشيدها كما يتم تهذيب الغرائز والنزعات الفردية.
العودة الى المنظومة العقدية التي تكوّن المعارف والمعتقدات الفردية والجمعية، عودة نقدية وفق ضوابط النقد المنهجي العلمي والموضوعي.
العمل على تفعيل اعتماد البعد المجتمعي والمقاصدي في العقيدة والشريعة على السواء، والتخلص من هيمنة العنصر الذاتي، ومن قواعد الاستنباط التجريدية التي تغفل الآثار المجتمعية والنفسية للأحكام الشرعية.