ريـــنيـه شــــار عاشق الأرض.. هناك حيث تصبح الأرض مرادفة للحريَّة

ثقافة 2021/11/14
...

 د. فخري العباسي
عندما يتزامن حب الأرض مع الدفاع عنها من أجل الحرية، تصل العلاقة القائمة بين الأرض والحرية إلى ذروتها. تلك هي المتزامنة التي ميزت الشاعر الفرنسي رينيه شار (René Char) الذي ولد في جنوب فرنسا، تحت ظلال سلسلة جبال البيرينيس المشهورة التي طالما تغنى بها وبجبالها المغطاة بالثلوج وسهولها الممتدة وغاباتها الواسعة.
 
ولد الشاعر رينيه شار سنة 1907، في منطقة الليبيرون في جنوب فرنسا وطالما عبر عن شغفه بهذه المنطقة التي بقي فيها ولم يبارحها إلا متأخرا، إذ توفي في باريس سنة 1988. وقد عبر على امتداد حياته في هذه المنطقة عن صور وجدانية فريدة أكد من خلالها على الانتماء إلى أرضه ومياهها وسمائها بل وجعل منها نبراسا ملهما للحرية ولم يتردد منذ أن سقطت فرنسا تحت هيمنة النازية من حمل السلاح والدفاع عنها ضد قوات الغزو الفاشية.
عندما سقطت فرنسا بما فيها منطقة الجنوب تحت هيمنة القوات النازية، رفض رينيه شار مغادرتها خلال فترة الاحتلال النازي مفضلا الانتماء إلى قوات المقاومة الفرنسية والاختباء في أدغال الجنوب الفرنسي، إذ عرف خلال تلك الفترة بالكابتن الكساندر ليشن منها مع رفاقه عمليات المقاومة ضد قوات الاحتلال النازية.
يصرخ رينيه شار تعلقه بالأرض في أكثر من قصيدة، ولكنه يبرع في قصيدته التي أطلق عليها جبال البيرينيس (Pyrénées) إذ يقول:
يا جبال الرجال الضحايا 
هنا، على قمة أبراجك المحمومة
ينجلي الضوء واهنا
هنا، الهدوء،
لا شيء سوى الفراغ وانجراف الجليد
الاستغاثة والأسف!
كم رأى هؤلاء الشعراء الجوالون 
اللون الأبيض رائعا في صيفك
وعاشوا مملكتهم الوديعة 
آه ! أيها الثلج الصامد
الذي يرغب منا أن نقاسي تحت قدميه
والذي يريد لنا أن نموت تحته مثلجين
بعد أن عشنا داخل الرمال. 
كان هذا الشاعر يعشق أرضه عشقا دفع به إلى الإضراب عن نشر قصائده خلال كامل المدة التي عاشت فيها فرنسا تحت الاحتلال النازي، لا لشيء سوى لأنه فضل الكفاح بسلاحه خلال هذه الفترة على الكفاح بقلمه. ها هو يشرح خياره هذا في رسالة معبرة بعث بها إلى رفيقه فرانسيس كوريل (Francis Curel) سنة 1941 يلوم فيه بعنف بعض المفكرين الذين تواطؤوا بشكل أو بآخر مع الفكر النازي:
«أنا لا أرغب أن أنشر أي شيء في مجلة ما أشعارا أرسلها إليك. وقد يحمل الديوان الذي تجد خلاصات منه والذي أعمل على كتابته بالرغم من العداء، قد يحمل هذا الديوان عنوانا يتمثل في عبارة واحدة هي «وحدهم الباقون». ولكني أكرر بأن هذه الأشعار سوف تبقى غير مطبوعة طالما لم يحدث شيء قادر على قلب الحالة المقززة التي نجد أنفسنا مغمورين فيها. أما الأسباب، فهي ناتجة جزئيا من ذلك التعري المدهش والمقزز الذي يشهد به منذ شهر حزيران 1940 عدد كبير من المفكرين الذين كان البعض من أسمائهم مع ذلك متبوعا سابقا بحظوة حسنة ومتانة أكيدة».
انتمى هذا الشاعر إلى الحركة السريالية التي استخدمها في كتابة شعر خرجت أبياته عن الشعر المألوف والذي عبر به مع ذلك عن تشبّثه بأرض الجنوب الجميلة وتعلّقه المدهش بها. وتوصل، في هذه الطريقة التي استعملها، إلى كتابة ديوانه أوراق هييبنوس (Les Feuilles d’Hypnos) الذي حرره عندما كان ينتمي إلى حركة المقاومة وهو مختبئ في أدغال الجنوب مع رفاقه رجال المقاومة ضد النازية، على شكل ملاحظات سجلها على دفتر أوراقه الشخصية المتجذرة من آفاق فترة سياسية مضطربة وعلى امتداد تناقضاتها المؤلمة التي تركت بصمتها على هذه الكتابات وكأنها تستمد اضطرابها من تقاطع أعماقها الإنسانية المؤلمة وكرهها للحروب التي أراد لها خلاصا سريعا يتيح له العودة إلى أرضه التي يتمسك بها وهو يقول: «حين ينهك الحذاء العشب، افسحوا أمامه خطوات الطريق»: سوف تمتد هذه الحرب القاسية 
وتتجاوز حدود المدن النائية
مدن السراب الأفلاطونية
وسوف يتواصل غرس المفاهيم المتناقضة
في التشنجات وتحت غطاء النفاق الأكيد 
فلا تبتسموا واِنفضوا الشك والخضوع
هيئوا أرواحكم حتى وإن كانت محتضرة
 وتصدوا للشياطين الواهية
المشابهة للعبقريات القاتلة
لم يمنع الاضطراب الذي عاشه شاعرنا من تمتيع روحه بمناظر بلاده، أرض الجنوب التي عاش فيها أبعاد انتمائه إليها في أكثر من قصيدة. وعبر عن عشقه لطبيعتها وهو يقف منجذبا بدهشة أمام روعة مناظرها الخلابة في واحدة من أجمـل قصائد الانتماء إلى الأرض والماء والسماء، قصيـدة الصبحيات (Les Matinaux) التي يتغنى فيها ببلاده بلغة سريالية معبرة، إذ يقول: 
هذا البلد ليس سوى أمنية الروح، ومانعة الضريح
في بلدي تصبح محن الربيع الحنونة والطيور الرثة
أفضل لديَّ من الأهداف البعيدة
فالحقيقة فيها تنتظر الفجر بالقرب من شمعة مضيئة
وزجاج النافذة حتى وإن كان مهملا.
لا شيء يهم على المرء عندما يكون نبيها
في بلادي، لا يجري استجواب المرء عندما يكون منفعلا
حيث لا يوجد ظل خبيث على القارب المترنح
صباح مبكر، هو بلدي الغريب
هناك حيث تكثر الأوراق وتزدان على أشجار بلدي
هناك حيث الاغصان حرة خالصة من فاكهتها
هناك حيث لا يمكن تصديق حسن نية المنتصر
في بلادي، نحن نشكر.