فالح حسن وهو يؤرِّخ أوجاعنا نغماً

ثقافة 2021/11/14
...

 ميثم الخزرجي
رحل قبل أيام فالح حسن، الفنان وعازف الكمان المعروف الذي ولد في محافظة ميسان في أواخر الثلاثينيات، حيث نشأ وترعرع في طبيعتها الملهمة وأهوارها الجذابة.. لقد تفتقت موهبته من خلال جلسات السمر بين مضايفها التي تفوح منها مساجلات الشعر والأصوات المعبرة الجميلة، أخذه شغفه نحو هذه الأطوار والأنغام ليهيم بها مجتهداً، وعزف مع اغلب مطربي الريف في محافظته 
 
آنذاك لم تكن آلة الكمان لها حضورها الفاعل، فكان النقر على أطباق المعادن (الصواني) الإيقاع الذي يتماهى مع صوت المطرب، قد زامن عمالقة الريف منهم داخل حسن وحضيري ابو عزيز وناصر حكيم، مروراً بسلمان المنكوب وعبادي العماري ونسيم عودة وسعدي الحلي ورياض احمد فضلاً عن بعض من مطربي الجيل الحالي. 
واصل حسن اجتهاده في بغداد ليدخل معهد الامل منطلقاً نحو مرحلة جديدة في هذا العالم ليتصدر كعازف رئيس ملما بخفايا وأسرار الأطوار وأنغامها العديدة، والجدير بالذكر أن فالح حسن أول من ابتدع المقدمة التعريفية كتوثيق للجلسة الغنائية، ليرحل عن عالمنا الى مثواهُ الأخير يوم الاحد
المصادف 24/ 10/ 2021.        
 
مرثيَّة الرجل المكدّر
لم يعرفوا أن صوته تلبّسه نغمٌ ملتاع وراح يستنطق معناه من خلاله؛ لذلك تراءت لنا أحاديثه بأطوارٍ عدة، لنصغي إليه عن عمد ودراية، هو أن يلملم أيامنا الصاخبة والمعبأة بالمآسي ليوثقها بحلّةٍ موغلةٍ بالوجع، أن يفرد لنا مساحة شاسعة من التجلي تكون هي الخلاص الذي يمكننا من استيعاب مراحل الفقد وكمّ المحن وجحيم المرارات المستمرة التي تمرغنا بها، (دك يفالح): ما بين تفصيلة واخرى حسرة المهمشين والمتعبين، عن الذين أكلتهم الحروب ببراثنها، عن ذلك الأنين الكوني الذي لازمنا، عن لوعة الأيام النازفة، كيف لك يا فالح أن تُدوزن أوجاعنا بكمانك العتيق، وأن تغرس فينا حلاوتها المرة، وأن تسير بنا إلى محطتك الأخير أو إلى حيث ما يستكين بك الطور بلوازمه المكدرة، كيف لك أن تقترح طريقاً عامرةً بالشجن وتعضّد من الصوت الذي معك بأن يجاريك، من أين لك كل هذه السطوة التي تجعلنا نحلّق معك من دون كلل أو ملل، وأن نحبّذ سماع النواح من المطربين الذين كنت ترافقهم، كأنك تستحضر روحاً بكشوفاتها وبواطنها النفسية تأبى أن تغادر هواجسنا، أو لعل هناك ما يشي بحالة من التفرد الغريبة  تتهادى من مشغلك طوعاً وتنساب من دون أن تمهلها حرارة الانتظار، تحدّث أيها الساحر الذي (يجيس) الروح عنوة عن تلك الملاذات التي تقترحها لنا وتمررها إلينا وكأنها خدر لا نستطيع التحرر منه أو التنصل دونه، لتطلَّ علينا من نافذة الزمن المغبرّ كتعويذة ترمّم بقايانا التائهة، لنقتنع أن ثمة خلاصا آخر نستجير به ونوهم انفسنا من خلاله، هل إن لفطرتك دلالة كونية تصيّر الهامش إلى متن، لتزيل الكمد المتوارث فيستحيل إلى نشيج منتظم له ملامحه المتأججة، كيف لك أن تعمّد أقدارنا بالدموع وأن تقلّب خيباتنا لتحاكي مقاصدها وتفضي لها دهراً بالرواح والمجيء بقوس كمانك، وكأنك تمنحنا عشبة التصبّر وتفتح لنا اقبية وممرات لحياة مغايرة، كيف لك أن تجترح لنا دروباً من النغم وتؤثثها بالإنابة، ما السر الذي يؤهلك لمعرفة مصائرنا فتوثقها وكأنها مراثٍ مترعة بالشكوى والحرمان تفور بنا على مر الازمنة، لعلك حاضر منذ بزوغ الخليقة لتمدنا بهذا التواصل الذي يتيح لنا أن نشرع بالمقارنة ما بين فجائع الامس واليوم، مقتنعين بالوحشة التي ظللتنا وأخذت مأخذها في دواخلنا، وكأنك تسهم في إعطائنا سيرة تعريفية للعراقيّ دونما قصد، (دك يفالح على الغليظ) ودع نزف كمانك يطهّر الأمكنة من السخام المتوارث والذي عمّر في مفاصلها، دعه وإن استحال إلى رجع فما زالت أصداؤه تلوح بالأفق ولا تأبى الزوال، لتذرف ما بوسعها من حكايات المارة ومخاض المثخنات بالنحيب ورائحة الشوارع المتربة وأهازيج الصبية الذين تقذفهم لعبهم نحو زاوية 
مهملة.
فالح حسن، وأنت الماثل بإرثك العظيم بين يدي الله، مؤكد أنّه سيرى كاهلك المحمّل بالعراق وأبنائه، أبلغه وهو العالم بخفايا النفس واختلاجاتها بأنك أنجزت ما عليك، وجئته بحمولتك وذخيرتك لتلقاه، سيفرد لك قدراً كبيراً تفي من خلاله أعمارنا التي تناوشها نغمك، ستعزف يا فالح مواجع العراقيين بأطوار عدة، ستجد أن لهم الصدارة والقدح المعلى في ملء مساحة الآخرة، ليحيطوك برفعة حال استرسالك وكأنك اعطيتهم امارة بقيت مرافقة لهم أو لعلّهم حفظوا لك هذا الديّن، انا متأكد يا فالح سوف (تنشد) عن سيد محمد وكريري سيأخذك البحث طويلاً عن رياض احمد، أرجوك لا تعاتبه عن رحيله المبكر فما عاد العتاب مجدياً في حينها، سندخر لك قسطاً مهولاً من الحياة يا فالح كونك قد أرخت أوجاعنا نغماً.