الهدر بالموارد والطاقات.. ثقافة وموروث أم جهل وقلة تدبير؟

آراء 2021/11/16
...

 د.سلامة الصالحي
 
يعد كوكب الارض أغنى وأثمن الكواكب في المجموعة الشمسية، لما يحتويه من معادن وثروات وأهم من كل هذا، غني بالحياة التي يبدو أنها بدأت به وستمتد الى باقي مجرات الكون عبر ذكاء وتطلعات الانسان ومعرفته، الذي بدأت به وبما حوله هذه الحياة، والارض ليست ملكا لبني البشر وحدهم، بل هي لكل ما تنفس الحياة في هذا العالم من حيوان ونبات وحتى جماد هو في خدمة الحياة كلها، اي ان كل هذه الكائنات ترتبط ببعضها عبر السلاسل الحياتية التي تديم ديمومة التطور، وبلادنا هي أحد هذه البلدان الغنية بكل شيء، بالأراضي الخصبة والرطبة، والمياه والمعادن والثروات والتراث والتاريخ بما فيه من ملاحم وقصص وآثار تركتها حضارات وممالك أنقرضت عبر الاف السنين، وقطعت صلة هذا التطور ومنعت امتداده الغزوات والحروب التي شنت على بلادنا بسبب موقعه وحدوده البرية وسهولة الوصول اليه، ولو لم تكن بلادنا غنية ومصدرا للثروات لما صارت موضع حسد ومطامع الغزاة، فهي الوادي المنخفض الذي تسري اليه ثروات الارض وتكتنز بين دفتيه، ولكننا كمجتمع وكمواطنين او افراد او مؤسسات دولة، هل قمنا بتنظيم هذه الموارد وتقنين صرفها بما يجعل البناء والعمران والاقتصاد بأقوى ما يمكن، هل امتلكنا الوعي الكامل في ادارة هذه الثروات كشعب وليس حكومة فقط، أم كنا نهدر الكثير تحت منظومة من التراث والتقاليد الساذجة والوهمية في هدر الكثير بنية الكرم والعطاء، الذي يحدث أن يتحول الى عكس مسراه أو أهدافه النبيلة.
 فنحن لم نجعل من الانهار العظيمة التي تمتد من الشمال الى الجنوب ضمن شبكة ري ونظام متطور يحافظ عليها من الهدر والعبور الى البحر، من دون أن نستفيد منها بالشكل الكامل والذي يحول دون أن تتصحر يوميا الاف الدونمات، ولم نستغل الغاز المحترق منذ عقود طويلة بما يغذي الطاقة المستدامة واحتياجات البلاد، وعلى مستوى الافراد والأسرة فأن ما يرمى بسلة النفايات من فائض الطعام يدخل ضمن الخسارات بملايين الدولارات، وحتى الاستهلاك غير المعقول للكماليات يجعلنا في خانة التبذير والهدر التي تصاب بها المجتمعات الجاهلة والمتخلفة بنظرتها الى تطبيق قيم الكرم والتظاهر بالغنى والترف، ويدخل ضمن سياق الهدر واللامبالاة كثير من الاشياء، بالادوية التي نشتريها لتظل بلا استخدام وترمى بعد أن ينتهي مفعولها، حدائقنا الصغيرة في البيوت غير مستغلة للزراعات العضوية وكي تمد الاسرة بمورد اضافي. الوقت المهدور في المقاهي والتسكع. والزحام لسوء الشوارع وكمية السيارات الهائلة، المواهب الفنية من فنون تشكيلية وموسيقى وفكر وأدب، لا يسوق لها، بل تهمل وتترك ومن السهل جدا التسويق للغرباء واهمال ابناء البلاد، نحن نهدر الكثير من الطاقات البشرية والموارد المادية، لنبين للاخر كم نحن كرماء، وكم نحن مهملون وكسالى ومقصرن في وحق الحياة والبلاد، وحتى نبغي كل عام أن نكون أول بلد في الكرم ورعاية الغرباء، اي نعم هي خصلة انسانية جيدة ولكننا عندما نزور تلك البلدان فلاينظرون لنا الا يد مانحة وان أفلست فتطرد على الفور. يجب أن نضع حدا لثقافة البداوة وتفاهة الافكار التي تبيح الهدر والتبذير تحت مسميات الكرم والعطاء والثواب، اي توجه هذه الصرفيات الى بناء المدارس والمستشفيات وتحسين العيش للفقراء والمتعففين، وهذا لعمري هو الثواب الحقيقي، والذي يريد الاطعام فليجلب طعامه معه أو يصرف من جيبه، وان يتم تنظيم الموارد الخاصة والعامة بعدالة تمنع أن يكون هناك من يجعل الكثير ينام ليله جائعا في مقابل الكثير من الهدر بأموال وعطايا لامجال لذكرها هنا، نحن ندعي أن بلادنا غنية، ولكن الفقر يزداد فيها ويبرز أنيابه، ويرعبنا من القادم، فنحن الكرماء، لا نجد حين نمرض مستشفيات تليق بكرمنا وعطائنا، ولا نمشي في شوارع تحمي أنفة العطاء والتبذير الذي صار صفة من صفاتنا ومحاسننا، بل عيوبنا التي جعلتنا نتخلف كثيرا في جوانب عديدة، فقدان العدالة في تنظيم الموارد برز في الفترة الاخيرة، اغنياء غنى فاحش وفقراء فقر مخجل لكرامة الانسان، وهو يبحث في مكبات النفايات عن فضلات ما تركه المهدارون من ابناء وطنه. الكرماء والمترفون، التعليم ونشر الوعي والتنوير ليس بالافكار فقط بل بتطبيقها، فالاقتصادات تقوى بالتراكم وقوة الاحتياطي المالي وما يقابله من الذهب، فتقوى العملة وعندما تقوى العملة، تقوى وتكبر كرامة الشعوب ولا يذلها مذل، او عوز او ظلم، لا نطالب بنظام اشتراكي ولكن نطالب بنظام اجتماعي سياسي ليبرالي يستفيد من الجانبين الرأسمالي والاشتراكي، عادل يضع في حسابه كرامة الجميع ومستقبل الاجيال القادمة، فعندما نحافظ على موارد البلاد، وتحافظ الاسرة على مواردها بالحرص والتدبير والتعقل في الصرف، فان أشياء كثيرة تتحسن، بدءا من ضمانات عدم افتقار الاسرة الى قوة اقتصاد البلاد وعدم عوزها وخضوعها الى الاستدانة. نحتاج كثيرا الى وعي جديد، وثقافة جديدة، بعيدة عن التبذير والهدر بالاموال والطاقات، وان تصرف الموارد في محلها وتخضع لرقابة الدولة والمجتمع. فالماء يجب ان ينظم بطرق تحافظ على تواجده على مدار العام دون ان نتعرض الى الجفاف، حتى وان تطلب الامر عمل بحيرات وسدود واعادة مجرى النهر للخلف، وتنظيم ما يهدر من الغاز والبترول واستغلاله داخل البلاد لمجالات الطاقة الاخرى كالكهرباء مثلا، والاستفادة من المساحات الشاسعة في الزراعة وتنويع الموارد الزراعية، واستصلاح الاراضي وحتى كري الانهر والاستفادة من الطين المكرور في تخصيب الاراضي التي غزاها التصحر، كل أثر وجانب في هذه البلاد وكل فرد يحتاج لقوانين ونظم تعيد ترتيب وجوده والنهوض به، لدينا من الطاقات البشرية ما تستحق ان تنظم لهذا الامر، فنحن لسنا بأقل من دول صححت نظمها الاجتماعية والسياسية وتجاوزت الموروث الساذج وقيوده، وانطلقت بعيدا وبالنتيجة انسان ذو كرامة وبلد تتمنى بقية الشعوب العيش فيه.