شعر الأحلام والظلال

ثقافة 2021/12/20
...

 ذوالفقار غوس*
 ترجمة: محمد تركي النصار
عندما كان ت. س. إليوت يترجم قصيدة أناباز لسان جون بيرس، كتب للشاعر الفرنسي ليخبره بأنه يعد هذه القصيدة واحدة من أعظم التحف في العصر الحديث، وكان من النادر بالنسبة لاليوت أن يصرح بمثل هذا المديح لشاعر من معاصريه، حيث اعتاد أن يعبر عن مثل هذه الامور بدبلوماسية عالية.
 
  أراد إليوت لإشارته عن بيرس (1887 - 1975) أن تكون تعبيرا ينم عن قناعة حقيقية بخصوص تقييمه لشعره..
 قرأت ترجمة اليوت لقصيدة أناباز قبل ثلاثين عاما، وفي ذهني صورة إعجاب مشوشة عنها، لكنني لا أستطيع تذكر أي من مقاطعها، فدفعني اليوت في رأيه المذكور بإحدى رسائله التي نشرتها جامعة ييل عام 2012 لإعادة قراءتها مترجمة من قبله ضمن أعمال بيرس الكاملة التي طبعتها جامعة برنستون عام 1971.
 يفتتح  الكتاب بمقالة معنونة (عن الشعر) ترجمها اودن لخطاب سان جون بيرس الذي ألقاه عند تسلمه لجائزة نوبل للآداب عام 1960.
يقدم بيرس في هذا الخطاب عرضا للقناعات التي يؤمن بها الشعراء، غير انهم قلما ينجحون في التعبير عنها بمثل هذا النثر الرائع الذي يجمع بين رصانة الأفكار المتماسكة منطقيا وبلاغة رفيعة المستوى يتجلى فيها بهاء اللغة وتفوقها.
يبدأ بيرس بالقول إن الشعر نادرا ما حظي بالتقدير الجماهيري فالمجتمع محكوم بسيطرة الجانب المادي ومن أجل إشباع عبودية التملك يعطي الناس اهتماما أكبر للأشياء المادية المكلفة أكثر من المتعة المجردة التي يقدمها الفن أو الاكتشاف العلمي، وبالاشارة الى اينشتاين وهيسنبرغ يؤكد بيرس بأن رجل العلم منخرط أيضا بعمل شعري ابداعي، وفي ذروة انشغاله لجعل اكتشافه مميزا ومبهرا يتوجب على العالم أن يستفيد من الحدس لإلهام العقل، فالوجود ما هو إلا متاهة عمى يهيم فيها كلٌّ الشاعر والعالم، ويظلان يحاولان السيطرة على الفوضى ونقل الشفرات الحسية وتحويلها إلى صورة ثابتة واضحة التعريف للحقيقة، والشاعر وحده من يستطيع اكتشاف سحر اللغة التي يعبر بواسطتها عن الايقاع المتسامي للكينونة لإظهار الحقيقة المتعالية، مضيفا بأنه خارج حدود الحاجة الشعرية فإن الأديان جميعا ولدت مستفيدة من الوهج الشعري للحفاظ على شرارة المقدس حية خالدة، ضوءا في حجر الصوان البشري.
  إن مايسبر غوره الشعر هو ظلام الروح، عتمة الغامض المبهم الذي يغلف الوجود البشري، وأكثر مايعبر عن عظمة الشعر هو الغوص على دواخل الروح العميقة، إنه الحج إلى عالم الذات الداخلي الذي أغوى اليوت أيضا. 
   في المقطع الأخير من رباعياته الأربع، أي بعد مرور ثلاث سنوات من ترجمته لقصيدة أناباز، يصل اليوت إلى خلاصته الروحية عن الزمان والمكان، معلنا بأنه يجب أن لانتوقف عن البحث والاستقصاء، ونهاية بحثنا تكون في الوصول إلى حيث بدأنا ومعرفة المكان للمرة الاولى، وهي الثيمة المركزية التي يتردد صداها في قصيدة سان جون بيرس.
استفاد بيرس في قصيدته من (أناباز) التي ألفها الفيلسوف الاغريقي والجندي زينوفون، وهو أحد مريدي سقراط الذي يروي قصة قيادته لعشرة آلاف من المرتزقة الاغريق عبر صحراء بلاد مابين النهرين بعد خسارته لمعركة حاسمة مع جيش الفرس قرب بابل عام 401 قبل الميلاد.
إنها صورة مجازية للكفاح البشري في عالم عديم الرحمة مستنبط من اناباز زينوفون: فلدينا الرحلة الطويلة عبر الصحراء، ثم الجبال الجليدية، بكل ماتعنيه هذه الرحلة من جوع وعطش حتى الوصول الأخير للوطن على ساحل البحر الأسود. ها هي الروح تتحرر في النهاية من الآلام الجسدية، وهي رحلة دائرية من اليأس والأمل، الهزيمة والانتصار، وقد عبر اليوت عن تلك الفكرة في بيته الشعري: (في بدايتي نهايتي) في المقطع الثاني من رباعياته الأربع، فالمنفي يعود إلى وطنه  أخيرا، والجسد الذي تحمل شتى أنواع المشقة نجا بعد صراع، والنغمة الناشزة للعناء الجسدي تم استنشاقها أخيرا، وبخفوت بدأت تسمع من هناك قصيدة الشغف السماوية.
في أجواء تلك اللحظة الساحرة من تجليات الفنان الشاعر تحقق الروح حريتها الكاملة، ومثل يمامة بيضاء تطير حرة منتشية بمتعة التحليق في فضاء المطلق الأزرق.
 يركز بيرس في قصيدة (أناباز) على فكرة تجريدية لذلك التدرج الرمزي محاولا أن يخلق قصيدة تفلت من اطار الزمنية بإشارة فقط في العنوان تحيل الى تأثره بكتاب زينوفون.
   (أناباز) قصيدة صعبة الفهم، وعندما نقرأها نعيش روح الشعر الصافي، ويصلنا احساس بحدوث فعل عاجل، ونحن نرى الشخوص الضبابيين قلما يتحركون وسط الدخان والغبار، في مشهد معركة، والهواء الكثيف مليء بالأصوات المعبرة عن اصطراع مشتعل لبشر غير مرئيين، لكن، وبرغم هذا الانطباع الذي يصلنا عن طبيعة هذا المشهد سرعان مايعقبه مايشبه الفراغ والصمت، فيما تستمر الذاكرة في التدفق لنصل الى قناعة بأن مانقرؤه هو شعر ليس إلا، لايحتاج الى اعادة تقطيع وصياغة، هو جواب اذن يقول بأنه لسوء الحظ فإن أصواتا مثل أصوات السحر تريد أن ترى رؤية خارقة تزوغ من قدرتنا على الامساك بها.
ربما كان ذلك مجرد تصنع حاذق، وهو مادعا اليوت ليقول في مقدمة ترجمته لاناباز بأن القصيدة لاتحتاج لمقدمة اطلاقا، وبأن القارئ سيحصل على الكثير بمجرد قراءتها ست مرات، وبدلا من ذلك يحاول اليوت جاهدا اضافة ملاحظة توضيحية (القصيدة سلسلة من الصور المتدفقة، بحث عن فضاءات شاسعة في اراضي اسيا البور، رحلة من الهدم وتأسيس المدن والحضارات لكل الأعراق والأصداء للشرق القديم).
  حقا إن هذا السرد الفضفاض يمكث في عقل القارئ الشغوف، لكن قراءة القصيدة ثلاث مرات ومقارنتها بالأصل الفرنسي الذي يجب أن يكون الانطباع الأول للشعر الصافي قد وصل من خلاله، لفتت انتباهي بدلا من ذلك الى تفاصيل عمل شعري تقليدي، بقيمة عادية، مما حداني للتساؤل عما دار في ذهن اليوت حينما قال بأن هذه القصيدة هي واحدة من أعظم القصائد في العصور الحديثة.
 الأمر ليس هكذا بالتأكيد، الجملة الأخيرة القصيرة بكلماتها الخمس البسيطة مسبوقة بوقفة طويلة، وقد صدمت لأنني لم اتفق مع اليوت (الذي يمثل بالنسبة لنا كما كان باوند بالنسبة له  صانعا ومعلما كبيرا) وتساءلت فيما اذا كنت قد اخفقت في قراءة القصيدة.
 
* روائي وشاعر وكاتب مقالات أميركي من أصل باكستاني