المكان وتحولاته في (144م2)

ثقافة 2022/01/04
...

 مبين خشاني
 
أحد تعاريف المكان لغويا هو «موضع الكينونة»، الفضاء او الحيز الذي يمارس فيه الكائن فعالياته.انه مسرح السيرة ومحل يستوعب وقوع الأحداث. كذلك يتحمل ان يكون هذا المكان- فنياً- خزينا شعوريا في الذاكرة، يحضر عند استدعائه بأشكال انفعالية تتناسب مع الوضع النفسي وتداعياته.
وعن المكان الفني يقول باشلار «المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً، ذا أبعاد هندسية وحسب.
فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما للخيال من تحيز». 
يحضر المكان في مجموعة الشاعر إيهاب شغيدل (144م2) حضورا فنياً لا يمكن إغفاله، بداية من الافتتاحية التي وضعها قبل النصوص: (باستمرار تخبرنا السمكة بأن اليابسة ليست كل شيء)، إشارة تحمل دلالة واضحة لمشكلة اختار لها مجازاً مكانيا يعبر عن صراع بين عنصرين طبيعيين، يحاول فيها لفت انتباهنا إليها كخطأ شائع ربما، مثل العصا التي تعيق دوران
عجلة الفهم. 
تأثير المكان في تجربة الشاعر هو الأوضح بين المؤثرات الأخرى، لأنه تأثير فيه من القوة أن يحضر بشكل يتعدى كونه أبعادا هندسية فيحمل أبعادا اجتماعية، مع رصد تحولاتها من خلال تغير الرؤية وتعدد زواياها لا يحمّل المكان ثقلاً وصفياً زائدا، ذلك لأن الدلالة تتحقق من خلال استعارة مختزلة، بحيث يكون الاختزال عنصر تأكيد على تلك الدلالة، يقدمه الشاعر كمفتاح فهم:
(المنزل أضيق من أن نضحك سوية
عائم بالضجر وبيع الأثاث، 
144م 2
كافي لثلاثة. أجيال)
وهذا الاختزال بالتأكيد يعكس إدراكاً غير مادي للمكان يتضح أولاً من خلال العنوان الذي يمثل المساحة الهندسية لبيوت مدينة الثورة.
وثانيا قصر جمل النصوص والتي تحمل نبرة وشكّل جملٍ اعتراضية من دون اسهاب في التوضيح، ليبدو النص وكأنه جمل اعتراضية منزوعة من
نص آخر.
اقتصاد اللغة هذا قد يكون نتيجة لهضم تجارب سابقة تنتمي الى المكان الفني ذاته، الذي تنتمي اليه نصوص المجموعة، ويكون هذا الاقتصاد تطبيقا لمادية اللغة عند الشاعر، فلا شيء يتحمل الإسراف في أجواء المجموعة إلّا الحب، وهو
غير مادي:
(أحبك بإسراف
بينما يغرق أبي في الديون
واشتهيك كلما قرأت شعرا يتلف حياتي). 
رؤية الشاعر للمكان غير ثابتة، لأن وعي الذات للمكان يختلف زمنيا، فالمكان مثل الزمان
 نسبي. 
طغت الرؤية الطفولية للمكان في نصوص المجموعة، في نص «نبي الجنوب» تكون لافتات المحال الشهيرة أداة قياس للزمن الذي تحتاجه عين الطفل حتى تقطع مسافة الطريق، يحصل ذلك في حضن الجدة التي هي من رموز الطفولة
الواضحة:
«كانت الحياة تبدأ 
من حضن جدتي، 
في سيارة تجتاز المشفى
وبينما الجميعُ يسليهم الغبارُ 
اقرأ بصوت مرتبك
(تسجيلات علي صالح)
تمر جموعٌ من الأغاني
تعبرُ الأشرطةُ على عجل
ونواحُ جدّتي يدورُ 
اقرأ (أحلام العاني) 
لتصوير حياتنا العاطلة»
وكذلك التركيز على ألفة التفاصيل الصغيرة هو تركيز طفولي، إذ تكون هذه التفاصيل صور العالم المصغرة، بكل ما تحملها من مبالغات تنتمي إلى الخيال الطفولي.
الاحتفال بالشتاء وتساقط الأمطار هي فعاليات طفولية أصيلة، وهو فعل شاعري كما يقتبس باشلار عن بودلير «الشتاء يضفي نزعة شاعرية على
المكان»:
(كنَّا نحبُّ الشتاءَ الذي يتركُ الكثيرَ
من الجداول الصغيرة
تنعم للحيوانات لا نعرفها)
 
***
(أحبُّ مشهدَ الغيومِ هذا
وهي تتدافعُ لتفريغِ حمولاتِها
على بيوتٍ قدْ تزهرُ سطوحُها،
رائحةُ الطينِ تلك تجعلُ العالمَ طبقاً شهياً)
 
***
(أنظرُ
إلى تلك الحشرات الصغيرة
وهي ترى من العالم شجرة واحدة
فيما يرى بائع الخشب شيئاً آخر تماماً). 
تتحول نظرة الشاعر للمكان من الطفولية إلى الواقعية، حسب الوعي الزمني للمكان.
فالمكان الذي كان يخنقه الضحك ولعب الأطفال صار مقبرة، وصار الأطفال فيه خبراء موت:
(الموت لا يحتاج خبرة
إليك أطفال الثورة مثلا.... 
إنه يلعبون الآن بدموع الجميع)
يضفي الشعر بعدا رابعا على أبعاد المكان الاقليدسي الثلاثة (طول، عرض، عمق)، وهذا البعد الشعري هو إدراك المكان زمنيا بعد استدعائه من الذاكرة بحيث يشكل الانفعال خلال
لحظة الكتابة.