منتصف صيف أخضر

ثقافة 2022/01/04
...

 زعيم الطائي
صدر الدغارة عبارة عن حيطان محترقة وهياكل غامضة ساكنة، بين أعشاب حلفاء طويلة وصفصاف، فتحت للعناكب وصوت الرياح، وقد تركت على جنباتها آثار سوداء من مخلفات أشباح الماضي، يسقط عليها الظلام مثل غبار جنح فراشة كسول لتمضغه أسنان الليل، وبجوارها رواق ظليل ومكتب بريدي مهجور
 
يذكر بالمثابة في قصة الرسل السبعة لبوتزاني، أولئك الخرائطيون المقبلون والمدبرون من جميع أرجاء المملكة من دون توقف بغية الوصول الى تعيين اخر نقطة عند حدود البلاد المفتوحة ورسم خرائطها المنكوبة وجغرافيتها التي كتبتها الأوهام، على الخائف على دروبها نسيان كل أمل كمن يعدو خلف حلم هارب او قبضة ريح.
كانت تلك ايام تلمس قلوبنا مكابدات الفراق الاول، والتعرف على بدايات الاحزان الاولى، ذات قيظ صيف بعيد، كنت بصحبة امي وجدتي في نفس ذلك الزمن، ومكان الصدر من ناحية اسمها الدغارة يرجح اسمها لسيطرة الوزانين على مصائرها واوقاتها الثقيلة بمعيارات الدهر العصملي الذي حكم البلاد منذ قرون مظلمة، (الحقة والأقة والمن والدغار) تركت أثرها عميقا وشديدا في النفوس وملامح قاطنيها في وقت غابر، كأنها آخر علامة من علامات بوابات الوجود.  
كانت الريح تصفر بين اوراق شجرة كالبتوس وحيدة وبضعة من اشجار دفلى عابسة ونهر قريب تعرت رفوشه تحت الشمس او لبدت تحت ظلمة اكوام الحلفاء والسلابيح، وبين ضفاف الطين والرمل الأبيض، وعلى البعد لاحت غابة ادغال متشابكة تتناطح في ليلها الخنازير البرية وتملأ ساعاتها صيحات الثعالب وعواء الذئاب، وعلى الارض ترسبت وحول جافة انطبعت عليها آثار دواب، كنا ننتظر تبريد راديتر اللوري الخشبي الذي يقلنا نحو مدن العتبات وقبابها الذهبية التي تلتمع راسية وسط شقوق الصحراء عند الليل.   
وقت الزيارات الهامشية على ملامح طفولتنا، كان القصر استراحة ملكية لأيام حملتها سحب مدبرة، بلا شواهد وأبواب وقد هجر لكي تأوي القنافذ والسحالي عند المساء، لم نتلمس اثرا لجلالته ولا خطوة لساكنيه ولا ظلا لبقايا عظمته، ربما أحاله الزمن مجرد مأوى لأشباح الليل ولصوص البهائم في القرى المجاورة وقت الظلام، او أبقاه الزمن كواحدة من علامات ورموز عالمنا المعزولة والمرسومة ملامحها بالحزن المستديم وشذرات الوحدة 
والشقاء.
وعبر الشارع المهجور مر قطيع من الجاموس مثيرا خلفه سحابة من الغبار، وفي السماء حلقت أسراب سنونو كثيفة.
 نسيت جدتي في صرتها الأخرى كباب البيت المقلي وشدات نبتة الريحان وكان علينا أن نصبر.
حتى يشتغل الماطور من جديد ونتوقف عند مشارف مدينة، يومها كانت مطاعم الطرق غير مألوفة في تلك المناطق التي اعتبرت نائية من أرض البلاد بحيث اختارها جلالته منتجعا للهدوء والابتعاد عن مشاغل الدولة، كانت ريح مصحوبة بنبتات عاقول تخلفت من درب الحطابين قرب منحنى النهر والزور البعيد، وتمنت  امرأة هجوم الجراد كما حدث في العام الماضي وتذكرت كيف توحمت حماتها مشتهية طبقا منه مع أعواد الرشاد والخبز الحار، حبوبتي تواظب على زيارتها لكل المراقد حتى مدينتي بلد وسامراء من أجل غايتين، لكي تكشف آلام مفاصلها كي تنال شفاء الأئمة وتعرض شكواها الدائمة من مناكدات الكنة،  وتضع درهما في الشباك لتأكيد الطلبات، كان كل منا يحلم باختلاس النظر الى وجه (قنده) القمري وعيونها المكحلة التي تشبه في التماعتها الزلال ممتزجا بالألم، تلك النظرة التي ستراها في كل النساء وكأنها أجملهن، وكانت ضحكاتها تتناهى الى مسامعنا مثل رنين جرص الحصة المدرسية
الأخيرة.
عند ذلك الوقت شاهدنا سائق اللوري الذي لم يحتمل شدة القيظ يرمي بنفسه غاطسا في ماء النهر الذي ظنناه نيلا في سعته، برفقة مساعده وبضعة راكبين، وصادف في تلك الظهيرة أن تربص أحدهم بأسماك النهر واحيائه فلم يكتف بصيد صنارة او شبكة فآثر ان يسمم اسماك النهر ودواجنه على طول شط الدغارة المتفرع من سدة الهندية ونهر الحلة حيث ينتهي عند قرية الجلعة وابي خايس، هناك شركة هولندية تأتي في بعض المواسم لكري النهر وتعريضه الا ان اغلبه حفره فلاحو المناطق المجاورة الذين اقتيدوا بالسخرة لتوسيع حلقه ومجراه.
كان النهر قد تعفر ماؤه المزهور منذ الصباح وبدت اغلب اسماكه تطفح فوق السطح بعد ان امتلأت حواصلها التسعة بالهواء الضار، وكنا نرى السمكات التي تحاول النجاة من الموت وهي تتسابق في القفز نحو الضفة حيث الموت الاخر، هرعنا نحن الصبية بدشاديشنا المبتلة واغترفنا بعضا ممن مازالت فيه نصف حياة بعد ان اعدنا السمك النافق الى الماء، وفي الحال اشعلت النسوة النار في الحطب اليابس وابتدأت حفلة الشواء التي سدت جوعنا بعد تأخر اشتغال المحرك، وسرعان ما انتشرت جيفة السمك العالق والنافق حتى كدنا نشم رائحتها وقد ملأت المكان تحت وهج الشمس وفوق المبنى
الحار.
وفجأة انطلق بعد الشبع  صوت يطفح بالأنين، صار يتخلل الهواء، كأنه وحده الذي يغني في هذا العالم، وعلى هذه الارض الضائعة، جعل الدماء تتخثر في عروقنا وعيوننا غائبة، لنقف حياله وعلى أشجانه مبهورين، انزوت بعده قنده لتبكي عند زاوية وتمسح دموعها بشيلتها البيضاء الناعمة كملمس خديها وطعم شفتيها المكتنزتين وجسدها المحشور في خدرها الانثوي والثوب البورسلين المشجر، هبت ريح خفيفة متلهفة للرحيل، بينما راح صوت (زهران) المرتعش يذوب حين يغني في اصقاع ومفازات بعيدة حتى خلناه سيرتطم بمحيط السماء، وخصلة شعر منسدلة على ملامحه السمراء وعينيه الرماديتين  المشتعلتين بالحب، وبضغينة دفينة رأيت عينا متورمة متملقة ترقبه، بلا اكتراث لأغنيته، عينا حائرة اخرى.
تبعث انقباضة في القلب.
عرضت الجدة ان يتوسد اوراكها احدنا ليأخذ غفوة وسط النهار، لكن شيطنات الطفولة ابت ان نستقر أو  يهدأ لها حضن، اثرنا اقتناص سلحفاة مغادرة وكرها، او مطاردة كلب مائي ما كاد يخرج رأسه حتى اجبرناه مغادرة جرفنا القريب بسيل من الحجارة، ثم ابتعدنا عن سواد النسوة الجالسات والرجال المشغولين بلف السجائر وبرم الشوارب نحو نخلات قريبة كانت احداها تحمل رطبا بلون احمر زاهٍ تساقط حول جذعها مترجرجا في التراب تناولناه بحلاوته بعد ان مسحنا حبات غبار طائرة علقت به فوق العثق او نقرات عصفور تشرب عسيلته، في منتصف ما بعد النهار كنت اتطلع وحيدا نحو الفراغ والصبية مازالوا يلعبون، بدا لي اليوم خائبا بلا نهاية، وعبر نافذة من دون زجاج في القصر المهجور كانت ريح هواء حزين تدور وتنتزع أوراق الطريق التي أخذت تتدحرج بخفة نحو الغروب.
ثم تتحول ساكنة فجأة، وبدأت اشم روائح ارض لم اتواجد فيها وكأنني احلم.
كان أحدهم في الداخل يحتمي بالظلام، يضرب بيدين واهنتين الجدار، صارخا في الفضاء ويلعن نفسه، كمن يشم خوفا في الحيطان، لم أستطع تبين ملامحه وبدت لي حشرجته غريبة تشبه تضور حيوان وقد تلفعت نبراتها بحزن قديم مكتوم. 
ينتهي النهار، وتنتهي الأشياء،وما ان أقبل المساء وقبل ان يمد خيوطه الظلام حتى اشتد عواء الثعالب من حولنا وابتدأ نهش الحرمس الطائر والبعوض، وبغتة صاح أحدهم: - انظروا هناك.
-هناك، اين؟
- قرب النهر..
كان جسد الفتى المغني نصفه في الماء الاحمر المسود ونصفه على اليابسة منكفئا فوق الجرف كمن يبحث عن شيء اضاعه بعينين مغمضتين، او كمن لم يجد ما يرويه، غافيا وممددا قرب كتلة من ورد النهر الأصفر، وعلى وجهه زغب مطين، وجمت النسوة. 
وشرع بعضهن بالبكاء، وتلفلفن بعباءاتهن كحشد غربان خائف، وقد امتقعت وجوههن، هرعت من بينهن واحدة كانت قنده تدنت من الحشد ونزعت شالها الابيض، غطت وجه الفتى المدمى، ثم رجعت بينهن حابسة الانفاس بعينين مبللتين وقد لزمت صمتا كالحرير.
قال السائق:
- احملوه من هنا حتى لا يجرفه النهر.
لكن سرعان ما نادى أحدهم بالاستعداد للرحيل وتوجه الجميع نحو اللوري، كنا نحن الصبية نصعد حيث السطح.
مع اكوام الصرر والرزم والاسباط والفتى الممدد، وجسده الذي مازال نظرا، نستلقي على وجوهنا التي يلفحها الهواء السريع فيطير شعورنا ودشاديشنا تهفهف وترفرف مثل اعلام وهي تتطاير حول اجسادنا واللوري امام انظارنا يخترق الليل وطرقا ترابية لم نألفها.
وجسورا غارقة، مدنا صغيرة واراض قفراء. 
مساحات شاسعة ومحطات تلتمع اضويتها الخافتة عند حدود الليل.
مزارع ضائعة وقرى كهياكل معدنية تختبئ تحت جناح العتمة.
وجدنا جسر الدوب المتسلسلة في مدينة طويريج مثل جزيرة عائمة غارقا بمياهه، فأناخ قربه اللوري وهو يخوضه كأنه يهبط من سماء وقد رمي هناك منذ زمن، وهديره يتلاشى، واخذت الدوب تترنح.
واحدة مثل الاخرى عند مروره، وتهتز أجزاء دواليبه السفلى وسلاسله المرتجة،
 صرخ أحدهم: أنا محصور.
وقال: ابعدوا وجوهكم سوف ابول.
وما أن نطقها حتى طرطش رذاذ دافئ غمرنا جميعا مختلطا بغبار الوجوه، لم يهتم أحدنا لذلك، ففي طريقنا توقف كل شيء حتى قانون الجاذبية الذي عرفناه، ووقفنا كلنا امام الريح خفيفين، وصرنا نرقص حول الفتى الممدد ونغني اغنيته بصوت واحد، وعلى الرغم من غياب القمر، كانت السماء امامنا تتوهج بضوء خافت، والريح تعبر من تحت أذرعنا وفوق الثياب كشلال ضوئي متدفق، وفجأة، بدى العالم مهجورا.
تلفه السحب السود.
وصرنا كلنا نختفي، الواحد بعد الآخر، ولا يرى منا سوى اخيلة تتحرك في الفراغ، وكل شيء يتلاشى ويختلط، طفت الجثة وقد سيطر علينا نعاس ثلجي وهدوء، واصواتنا تغوص مرة واحدة، ولم يعد لكل شيء من أثر وقد جرفته الارض.
وكأن العالم من حولنا أمسى بطيئا مثل اسطرلاب رملي يخلو وينفذ شيئا فشيئا من الذكريات التي لن تدركها غمرة
النسيان.