يوجين شاوسوفسكي
ترجمة: أنيس الصفار
سبق أن أشرنا في مقالة سابقة إلى الإطار الذي يحيط بعملية اتخاذ القرار حين يتعلق الأمر بتدخل روسيا عسكرياً في بيئة ما بعد حقبة الاتحاد السوفييتي. ضمن هذا الإطار تشخص خمسة متغيرات أساسية يجب أنّ تتحقق لكي تتخذ موسكو قرار إرسال قوات عسكرية إلى أي مكان: (1) توفر حافز معين. (2) توفر الدعم من عناصر محلية. (3) ما هي طبيعة المعارضة العسكرية للتدخل أو ردود الفعل المتوقعة. (4) الجدوى العملية للتدخل. (5) الأثمان السياسية والاقتصادية المتوقعة للتدخل، مثل العقوبات. وفق هذا الإطار كنا قد توقعنا ان إقدام روسيا على غزو عسكري واسع النطاق لأوكرانيا احتمال مستبعد في المدى المنظور رغم تحشيد القوات والخطاب الهجومي من جانب القيادة الروسية.
بعد ذلك أشرنا إلى أنَّ الاحتمال المستقبلي يبقى قائماً صوب بناء حشد عسكري روسي ونشر للقوات في مناطق أخرى غير أوكرانيا، لاسيما في البلدان الأوثق علاقة بموسكو. وفي الأسبوع الماضي وقع هذا التدخل في كازاخستان حين نشرت "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" بقيادة روسيا جنودها لاخماد الاضطرابات التي اندلعت بسبب ارتفاع أسعار الوقود في 2 كانون الثاني ومن ثم انتشرت بسرعة واشتدت أزمتها إلى أن استحالت عنفاً عم البلد. رغم استمرار الاحتجاجات وبقاء التشوش الذي يلف الأجواء الأمنية والسياسية في كازاخستان فإن توقيت التدخل الروسي في هذا البلد وأسلوبه يقدمان رؤية في عمق الحسابات الستراتيجية والأدلة التي تسير وفقها موسكو بشأن ما يمكن توقعه عند التحرك قدماً في المنطقة الأوسع.
تَدخل روسيا في كازاخستان يتسم بخصائص فريدة ومختلفة عند مقارنته بعمليات موسكو العسكرية الماضية في بيئة الاتحاد السوفييتي السابق، كما حدث في جورجيا 2008 وأوكرانيا 2014.
أحد ملامح هذه الفرادة يتمثل في مشاركة "منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، وهو تحالف عسكري مؤلف من روسيا وأقوى حلفائها الأمنيين من حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي يضم ارمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان. على خلاف عمليات روسيا في جورجيا وأوكرانيا جاء نشر قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي (ومعظمها قوات روسية تصاحبها فصائل أصغر من ارمينيا وبيلاروسيا وطاجيكستان) بطلب صريح من الرئيس الكازاخي قاسم جومارت توكاييف، كما أن العملية نفسها ليست موجهة ضد الحكومة. فحين تدهور الموقف بسرعة وخرج عن السيطرة شعر توكاييف بالحاجة إلى دعم منظمة الأمن الجماعي لتأمين المواقع والمنشآت الستراتيجية، ومن بينها المباني الحكومية والمطارات والمدن الرئيسة مثل "ألمآتي"، في حين تتفرغ قوات الأمن الكازاخية لمهمة التعامل مع المتظاهرين بشكل مباشر. والواقع أنّ طبيعة التدخل تحت جنسيات متعددة لها أهميتها لكونها تمثل أول نشر مشترك لقوات "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" خلال 30 عاماً من تاريخ هذا التكتل الأمني.
بيد أن السياق المنطقي الذي أوجب الانتشار في كازاخستان بقيادة موسكو له توازيات مهمة مع الإجراءات العسكرية الروسية في أوكرانيا وجورجيا، حيث أن أي تدخل روسي في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي له جذور ممتدة في صميم ضرورات روسيا الجيوسياسية الأساسية المتمثلة بالحفاظ على اللحمة السياسية الداخلية، وحماية نفسها من الجيران المتربصين والقوى الخارجية، وتعزيز نفوذها في المنطقة مع تحجيم اللاعبين المنافسين.
حين تدخلت روسيا في جورجيا واوكرانيا كان الهدف هو تقويض دعائم حكومات مؤيدة للغرب معادية لمصالحها، أما التدخل في كازاخستان فقد كان على عكس ذلك، حيث إنه تعزيز لركائز حكومة موالية لروسيا ومتحالفة ستراتيجياً مع الكرملين. الجانب الآخر الذي لا يقل أهمية هو أن روسيا قصدت إرسال رسالة مفادها بأنها مستعدة للتحرك ودرء خطر توسع وانتشار مثل هذه القلاقل والعنف والاضطراب السياسي إلى دول أخرى صديقة لموسكو، ودرء احتمال حدوث مثل هذا داخل روسيا نفسها مستقبلاً.
من هذا كله نرى أنَّ المبررات الستراتيجية الأوسع للتدخل الروسي في كازاخستان متوفرة. فمثل هذا الانتشار يأتي متوافقاً مع عدد من العناصر التي حددناها في بداية حديثنا: فالحافز تمثل بالاحتجاجات واجتياح المباني الحكومية، والدعم من جانب عناصر محلية تمثل بطلب توكاييف من "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" التدخل، وهذا بدوره رسم معالم الجدوى العملية للتدخل كما ضمن عدم صدور رد فعل عدائي من الجيش الكازاخي.
من ناحية أخرى لم تتضمن الاشارات التي بدرت عن الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي احتمال صدور ارتدادات عكسية وتبعات يخشى منها اقتصادياً أو سياسياً من قبل الغرب كرد فعل على التدخل الروسي. نتيجة لهذا بادرت روسيا بسرعة وبدون تردد إلى ايفاد قوات تحالفها الأمني بمجرد أن طلب توكاييف ذلك. لولا هذه العوامل ربما كانت موسكو ستتريث في النشر أو ربما كانت ستجعله أصغر حجماً، او ربما كانت ستتجاهل الطلب بلباقة.
هذا كله لا يعني أن تدخل "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" بقيادة روسيا في كازاخستان لن يأتي معه بمشكلاته هو الآخر، كما أنه لا يكفل للتدخل النجاح في تحقيق أهدافه، المتمثلة بإعادة النظام العام ودعم الحكومة الكازاخية. قد يكون الدعم المحلي للتدخل متوفراً على المستوى الحكومي لكن بعض العناصر من داخل كازاخستان، وبينهم كثير من المحتجين وشخصيات في المعارضة، يرفعون أصواتهم ضد التدخل ومن الممكن أن يتخذوا قراراً بالمقاومة الآن أو في المستقبل. علاوة على هذا ان المشاركة العسكرية من قبل دول "منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، مثل بيلاروسيا وقرغيزستان وأرمينيا، التي تعاني هي الآخرى من مشكلاتها الاجتماعية واضطراباتها السياسية الخاصة بها، من شأنها أن تجعل تلك البلدان أكثر هشاشة عند مواجهة القلاقل السياسية مستقبلاً. أما إذا عجزت قوات المنظمة عن تهدئة الوضع وإعادة النظام الى قرغيزستان، أو في أي منطقة ساخنة أخرى يمكن أن تظهر مستقبلاً في أي شبر من دول منظمة معاهدة الأمن، فإن ذلك سيلحق ضرراً بالغاً بهيبة الكرملين نفسها، في الداخل الروسي وفي فضاء الاتحاد السوفييتي السابق.
هناك الكثير بانتظار كازاخستان حالياً، سواء بالنسبة للحكومة الكازاخية أو للروس وحلفائهم الأمنيين، ناهيك عن الشعب الكازاخي والمحتجين أنفسهم. قد تكون موسكو برهنت على ثباتها وعزمها في استخدام القوة العسكرية للدفاع عن مقامها ووضعها في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، لكن مثل هذه التدخلات تبقى باباً مفتوحة لإنتاج طيف واسع من التبعات والعواقب لا يمكن توقعه أو التحسب له.
عن مجلة "فورن بولسي"