نَحْتٌ يُذكّرنا بالجنرالات والإرهاب

ثقافة 2022/01/16
...

 خضير الزيدي  
 
تشهد قاعة أيام كاليري في دبي اقامة المعرض الشخصي السابع للنحات معتصم الكبيسي في الثاني عشر من شهر كانون الثاني، وهو معرض يعيد الينا التذكير بما عشناه من ويلات الحرب والارهاب والاحتلال والهجرة القسرية عبر قوارب انتهت بالغالب منهم في الغرق او رميهم خارج اسوار البلدان العربية، وبما ان منحوتاته تمثل واقعا معاشا فقد بدا لنا معتصم أكثر تماسكا في بناء أعماله من حيث الصياغات التعبيرية كأنه يريد ان يلقي باللائمة على فكرتي الاستبداد/ السخرية، وهذا ما جعل (عنوان) معرضه يمزج بين كلمتين لينتهي العنوان (تلاعبٌ بالكلمات) وهي اشارة لفحوى الخطابات الكاذبة والادعاءات التي لا تجدي نفعا بعد ان عاش العراق والمنطقة اجرامية الارهاب والاحتلال، يمثل هذا الخيار في الفن المعاصر فكرته بوضوح ومن دون التباس او فرض أخيلة وتصورات غامضة، وهنا تكمن فاعلية العرض وهو محاكاتنا جميعا ليس بجانب اثارة العاطفة انما بوعي وتعزيز ذلك بشواهد ما جرت فيه من الويلات والاقتتال الطائفي والهجرة، ولعل معتصم الكبيسي اكثر الفنانين العراقيين ولعا بتمثيل وقائع الحياة الحية فهو يدرك مغزى الارهاب وفكرة الهجرة واسبابها ويجلب معه بخيال خصب اعمالا ذات رصانة في الرؤية والتعبير، فضلا عن بنائية محكمة في الاسلوب لتمثل هكذا منحوتات اعلانا وتشهيرا بنكسة الانسان والوقوف على المسببات، إنه يذكرنا ويوجه نداءه صوب عقولنا بينما بوصلة منحوتاته تشير الى الماضي القريب بما يفسر الحيرة ونحن نعيش
هذا الحطام المتراكم. 
 
حرية الاشكال وتمردها 
معتصم فنان من النوع الذي يميزه شكل المنحوتات عبر قوام بصري يضع المتلقي في موضع الغرابة ليجعله في نهاية المطاف يتماشى مع فكرة الفنان ومواقفه ورؤيته او اشاراته التي يرمي اليها، ومن يتابع اشكال منحوتاته سيجد البدانة واضحة على الجنرالات وهو تمايز مقصود يندر حدوثه في اعمال ومنحوتات لفنانين عرب، وهذا التفرد لم يأت من فراغ انما تثير الاشارات لثوابت في التعامل مع الخامات (البرونز) والفكرة الموصولة جذورها الى كساد وغياب العقل المدبر او الفراغ الذي يعيشه الجنرال، موضع القساوة هنا لا تنفيه منابع الفن واختلالات الاسلوب في الشكل او الغرائبية  في تمثيل الاشخاص بكل تلك الكتل البشرية، سنجد مثالية تنشغل بفكرة ممارسة هؤلاء لعملهم انهم يتسيدون ويسخرون وبالنتيجة سيشمئز منهم المتلقي، وهذا الفن وطبيعة صور الاشكال فيه تضيف مزيدا من التأويل والازاحة لعقولنا كي نفهم رغبة النحات في إحياء هذه المظاهر الشخصية، الاشكال لا تمتلك رهافة وتجانسا فقط ثمة هيأة مخيلة قادرة ان تكون أنموذجا لآخر موجود أمامنا، نعم تذهب اشكاله لمشتركات مباغتة لكنها حريصة ان ترينا شريطا من وجوه ذات مدون سيميائي ورمزي معا، كيف يحدث هذا التمثيل في اعماله النحتية؟ معتصم الكبيسي يعاين بقوة نحو الاشياء التي تحاصره لا يصل لحظته بعالم من الغيب انما عالم واقعي مألوف ومعاش؛ لهذا السبب تستوفي اشكاله النحتية شروطها الجمالية والتعبيرية من لذة هكذا تعامل مع الفكرة، انه يجعل الموضوع كفاحا وسببا للمناهضة وليس لمثالية لا ترمي الى هدف يتحقق في الواقع.
حرص هذا الفنان منذ الثمانينات من القرن المنصرم على ان يبدي واقعيته وانحيازه نحو تخيل الواقع والمستقبل لا يخرج من وجدانه نحو المجهول يهيمن عليه الحدس وهو ينحت ويفكر كيف يقوض البرونز ليعيد صياغة فن نحتي قابل للمحاكاة والتأمل معا. 
 
مهارة مستجيبة للنحت 
هذا المعرض كما قبله في بيروت يبدي طابعا في المهارة والحرفية التي تفهم كيف يدار النحت بقوامه وكتله وزواياه وفراغاته تقدم فكرة اقرب للمطابقة البصرية، ثمة استثمار لا يلحق بالأشكال اية تبعية، هناك حفاظ على وحدة الموضوع وتجسيد للحكاية مع احساس شفاف يلاحق الاعمال الفنية، هذه الاعمال حملت نزعتها بمهارة وفنية عالية أمليا عليها (الوعي والحرص) من قبل النحات معتصم نوعا من البنائية التي تدرك جدوى العواقب من خلال الشوائب؛ لذا نرى في مهارته الفنية ثمة تحييد وتقويض لكل شائبة، نرى اشكالا من طراز فني ذات مهارة عالية قابلة للاستمرار مع تماسك تعبيري وبنائي رصين تتجانس فيه رؤية الفنان مع مقدرته ومغامرته في تحديد الوصف والتعبير الذي ينشد ويسعى اليه عبر هذا المعرض ومن يتابعه منذ تسعينيات القرن المنصرم يدرك التوازن الموجود في قطعه النحتية، لقد قلت ذات يوم في بعض من تلك المنحوتات انه يفرض مهارته عليها ويطابق بين خياله والتشخيصية في النحت، ليس الغرض هنا ان يبدي عرضا فيه تلاعب خاص انما ليدفع بالمتلقي للمشاركة في احياء فكرة المعرض والغاية منه. بدا لي ان هذا الاستلهام شعور انساني يلازم نحاتنا منذ ان ترك العراق ليستقر في الامارات العربية، منشدا في العاطفة والخيال الى واقع وجذور عميقة، صانعا لخطاب فني يشخص فيه عيوب التاريخ وقوة
واستبداد السلطة.