محمد يونس محمد
قبل الدخول إلى عالم ناتالي ساروت القصصي نقف على مغالطة حرجة دونت في العنوان الداخلي، إذ قدم مادة الكتاب على أنها قصص قصيرة جداً، كما أشار المترجم المصري فتحي العشري، لأن المنهج الفرنسي للأدب السردي لا يؤمن بوجود قصص قصيرة جداً، كما أنه لا يهتم بالمساحة اذا استطالت أو قصرت، بل بمقومات النص الفنية، خصوصا في تأكيد روح معاصرتها، وتلك اشكالية في تعيين جنس أدبي غير متأصل بدلاً من جنس أدبي تاريخي، إلاّ أنها لم تكن حينها ذات اثر كبير، وما كان هناك ردود فعل ضد ذلك التحديد غير المنطقي والذي يملك استدلالا على المادة المكتوبة.
قدمت بنية اللغة في قصص ناتالي ساروت تجديداً جمالياً في نمط الكتابة، فمع وجود أفعال الكلام السردية، تتجه اللغة نحو الوصف الذي يحول الحقائق إلى تصورات تجعل التلقي يبحث في بنية اللغة عن الحقيقة التي اختفت، ويشكك في ذلك فهي متصلة بذاكرته، لكن على المتلقي أن يدرك تجاوز الادب الفرنسي الجديد التزام الحقيقة المطلقة. ففي القصص الثلاث الأولى هناك فعل سردي لجمع المذكر السالم بتفاصيل متنوعة، لكن القصة التي تلت انتقل فعل السرد إلى جمع المؤنث السالم، فبدت واضحة لنا نون النسوة في ما استهله الفعل السردي.
في القصة الخامسة كان هناك مستهل تفاصيل عبر ملقط لوصف الأشياء، وعاد فعل السرد إلى رسم ملامح حركة شخصية انثوية، تعيش بين قوسي زمن دائري للاغتراب، وتعاقبت بعدها القصص التي تبدي نفساً روائيا صيغ بطريقة فنية فيها ضمور واضح للفصول.
فالرواية الجديدة نبذت الاسهاب السردي عند بلزاك وراء ظهرها، وتبنت الفن الذي غير مركز العالم واستبدلت الأشياء الانسان وحلت محله، لتكون هي المركز الذي ينجذب اليه الوجود البشري.
توالت عملية السرد عبر (هم- هي- هو) ومن ثم اختفاء الأنا الذي سيمنح النصوص روحاً فنية خلاقة، وسيتطور مضمون القص أكثر فأكثر، وصراحة كلما أنظر إلى جنس اللغة وسياقات الكتابة أجد نفسي أمام رواية صيغت عبر أبعاد قصصية بتعدد المضامين، لكن لا حكاية مركزية هناك، وإنما حولتها الوحدات السردية عبر التقطيع الفني الى مضامين، فبنية كل نص كانت تبدأ بضمير -هي- واستمرت تروي وتسرد عبر كيان المؤلفة المبّأر داخلياً، بالمقابل استمرت بنية اللغة في خلق ملامح للتفاصيل، حتى تكتمل بنية تفاصيل حدث عن تلك الشخصية المشار اليها -هي- وتوالت عملية بناء تفاصيل عامة وخاصة واستثناءات موصوفة، إذ ركزت اللغة كثيراً على البعد النفسي والمشاعر والأحاسيس، فضلا عما كان من افعال سردية تتناوب في الاداء الفاقد للدرامية والمعزز للأثر النفسي، ثم كانت آخر العناوين المرقمة التي أشارت لنا بأنها عادت إلى ضمير -هم- مثلما استهلت في البداية بذات الضمير.
أبدا ما كانت هناك أي قناعة لدي بأن ما قرأته هو جنس قصصي، فشكل المادة وتوالي شخصية -هي- وانعدام الشكل الدرامي والتاريخي للقص، هي مؤشرات على انعدام الشكل القصصي، وفي النهاية أعتقد أن عليَّ إلغاء ما هو مؤشر والذهاب الى ما هو مستبعد وأقر به.