في ذمّ الحماسة

ثقافة 2022/01/23
...

 علي محمود خضيّر
 
لبدايات الشعراء أوهامها. وما إن تعبر التجربة نهر البدايات النزير حتّى تتكشّف لصاحبها عيوب مرحلة بالغة الحساسية تؤثّر في مسار الشاعر حتى النهاية. وقد يعيش المرء لآخر حياته بلوثات مرحلة التكوين تلك، أيّ يقيم في بداياته إلى الأبد، لا زخم البدايات المتدفق، بل عثراته وتلعثمه.
من أخطر عيوب البدايات الحماسة. كلُّ حماسة تخفي مقتلاً؛ سواء كانت لفكرة أو توجّه. وتزداد الحماسة فداحةً حين تُستعمل في الفن، فيتحوّل الكاتب إلى حامل لواء يستعدي ويهجو ويحارب.
كانت أشهر الحماسات أيام (جيل ما بعد التغيير) الدفاع المقدس عن قصيدة النثر، بلا طلب من أحد ولا مناسبة، غير الإثارة التي تبحث عنها الصحافة الثقافيّة. ولحسن الحظ، لم تكن لشعراء الجيل استجابات حاسمة آنذاك، سوى التعبير عن موقفهم من النص الحديث عبر كتابته، لا التنظير حوله.
كانت لتلك الحرب أكثر من ميدان، ولها فصول مضحكة تتجلى في مواسم المهرجانات، ما زلت أتذكر انقسام قاعات الجلسات الشعريّة في تكتلات متفرقة بين “جماعة العمودي” و”جماعة النثر”، فما يصعد مسكين من فريق حتى يتسلمه الفريق الآخر بالنبز والسخريّة والضجيج المتعمد. 
حادثة فارقة أحفظها عن تلك الأيام لها أكثر من دلالة في شأن الحماسة: كنا قد رتبنا لاحتفاء في نادي الشعر بالبصرة لمناسبة مرور 150 عاماً على إصدار “أزهار الشر” لبودلير. أُلقيت في المناسبة أوراق يبدو أن بعضها أشار (حماسةً؟) أن الكتاب بشّر بقصيدة النثر. فما كان من الشاعر فوزي كريم إلّا أن كتب في زاويته “من البرج العاجي” مقالة ذكر فيها، ما معناه، أن دفاع الكتّاب الجدد عن قصيدة النثر جعلهم يتوهّمون بأن “أزهار الشر” كتابُ نثر، بينما هو قصائد موزونة! وغاص كريم -كعادته- في صراحته الجارحة، تأويلاً واستنتاجاً، حتى قاربت مقالته حافّة الحماسة. ويعرف المتابع موقف فوزي من قصيدة النثر. وأذكر أن بعض الزملاء رد مدافعاً.
تذكرتُ ذلك كلّه في جلسة مهرجان شعريّ أقيم مؤخراً في البصرة. كانت الصراعات نفسها سائدة على المنصة تعربد في غضونها الحماسة، من العجيب حقاً أن تكون مشكلتنا الشعرية “شكليّة”، والأعجب، أن تقفز اشكالاتنا الشكلية تلك على السنوات، وتستمر، كأن التراكم لا يفرض علينا مسؤولية. 
إن الإدراك المتأخر لماهيّة صراع الشاعر قد يفوّت عليه محاولته الفرديّة في الوصول إلى حقيقة شعرية خاصّة. صراع الشاعر الحقيقيّ مع اللغة، مع نفسه؛ في كيفية إحداث خرق في التراث الشعريّ، مع القصيدة صنّاعةُ المفاهيم والخطاب، وليس مع الآخر بأيّ شكل من الأشكال. ولا أن يسخّر جهده في صِدام عابث تُحركه الحماسة الجوفاء، لا يثير في المحصلة سوى الأسف والغثيان.
في اللحظة التي يعرف فيها راهننا الشعري أين هو الآن؟ وماذا يشغلُ بال الشعراء؟ سنعرف وقتها الإجابة عن سؤال الدرس النقديّ: لماذا لا يكون لدينا، نحن العرب، خطاب شعري أو نظريةً شعريّة؟.