بحثاً عن ظلّ الربّ على الأرض

ثقافة 2022/01/23
...

 علي شايع
 
تبدأ رواية «هكذا تكلم زرادشت» للكاتب والفيلسوف والشاعر الألماني فريدريك نيتشه بنزول البطل زرادشت من كهفه عزلته لعقد من الزمن. معلناً لمن يصادفهم في الطريق، بأنه عائد وفي حوزته ما يفيض حكمة ومحبة، ستكفي لتعليم الإنسان التفوق على ذاته. مكتشفاً، بعد حين، بأن الناس عموماً لن يفهموا مراده، ولم يأبهوا بالأصل إلى ما دعاهم إليه، فيغتم لأمر «القطيع».
 
الإنسان المتفوق
يجد نيتشه أن من الضروري انتظار ذلك القادم المتفوق ليحكم، حاثاً الناس بالخروج إلى المعرفة بانتظارهم هذا، بالخروج إلى النور، وقد زال عنهم ظلّهم.
مواصلة لمشواره الإرشادي مع من يهتم لقضيته، يعقد زرادشت العزم من خلال دروس وخطب بليغة. تلك المواعظ ستغطي معظم الموضوعات العامة لفلسفة نيتشه، على الرغم من رمزيتها وغموضها أحياناً، لكنها بالمجمل تبحث في النضال والمشقة وصولاً إلى ذلك الرمز «الإنسان المتفوق» الذي سيقود المجتمع، ويكون الجميع مثل شخصه في الطموح الأمثل، لا الشعار العابث في الآفاق الضيقة؛ فكل أيديولوجيا ستضيق بها الآمال حتى ولو كانت من منبع المقدس. 
لا بدَّ من قوة كافية، فأولئك الذين ليسوا أقوياء سيستسلمون لاجئين للتطرّف بوسائله المختلفة الشائكة. ساعتها لن ينفعهم ما 
اتخذوه من سبيل، لأنه سيمهد لهم الأفاق، هَرباً، مجدّداً، من أنفسهم.. هروباً، بالأصل، من التفوق.
يشير نيتشه بكتابه الفريد، إلى عنوان ثانوي بالقول: كتاب للجميع ولا لأحد في آن! مبيناً أن ما يريده من وصول إلى العقول، لابد أن يكون وصولاً يختلف في عقل كلّ من يواجههم، فخاطبه للجميع، ولكن سيكون لكلّ إنسان رؤيته واستنهاضه الشخصي لإنسانه المتفوق على نفسه، وصولاً إلى الكمال.
 
أزمنة العامة
منذ المفتتح، يستهل «زرادشت» حكايته، ودون تلكؤ، بأسئلة مستأنفة لزمن آخر، يبدو خلالها كأنه تجاوز «أزمنة العامة» خلال عودته العميقة من غيابة كهفه المهيب. وحين يجد أن هؤلاء العامة ليسوا مهيئين تماماً لتفهّم تعاليمه، سيعود إلى صومعته البعيدة. وكأن نيتشه يتساءل هنا عن المسافة بين أسئلة المثقف والإنسان العابر اليومي؛ مسلكيّ حياته وانشغالاته.  
لا توجد طريق واحدة تليق بالجميع. الخير والشرّ نسبيان، فربما ما تراه صواباً للخير، يكون شرّاً على الآخر. وهكذا العكس، وحتى في النفس البشرية الواحدة سيحلّ تناقض الخير والشرّ، تلك النفس التواقة والمتطلعة إلى الأعالي ستحتاج أسوأ ما فيها، لتصل إلى أفضل ما فيها. 
تخويف، وجنون، ومسالك وعرة للفكرة، يقف حيالها كلّ ذي تجربة سابقة، ربما، بنصح القارئ الناشئ لأجل فهم نيتشه. ولعلّ من يطمح بمنهج مدرسي للتعريف بمثل هذه الأفكار الكبرى. تلك أسئلة للآمال ستجيب عنها المغامرات الفردية لمن طالعوا واكتشفوا وأجابوا عن أسئلة نيتشه بتجرّد عن أيّة فكرة سالفة.
كان الفيلسوف برتراند رسل يقول: القارئ التقليدي سيصدمه نيتشه، فاندفاعه بالتعبير عن الذات إلى حدّ التناقض شيء لا ينكر، ويحتاج الانتباه. وبالفعل فالصدمة بحسب فلسفة نيتشه ستغدو نزوعاً نحو النضج وتحقيق الذات بجرعات من الألم، ولا يجد لها الفيلسوف مثالاً غير ذاته. ومحور الصدمة المرتقبة في «هكذا تكلم زرادشت» يكاد يكون في كلّ صفحة من هذا العمل الاستثنائي، الذي كتبه بقلق متحرك. ولا أذكر في أي كتاب آخر له، قرأت اعترافه عن كتابته لمجمل صفحات هذا العمل الاستثنائي، ماشياً على سفوح جبلية.
موت الآلهة!
كيف لنا أن نقرأ نيتشه، بكل منهجيته في التشاؤم، وفي الجمال، وما يتعلق بمناحي الحياة. ولو أعدنا قراءة «هكذا تكلم زرادشت» كلّ عقد من السنوات، ترى هل سنجد ما يستجد لدى الذات القارئة الواحدة؟
سؤال يتعدى هذا التفصيل إلى العقائد، فـ (نيتشه) الموصوف بالتمرد على الدين الأرضي، و»الباحث المحموم عن الإله» على حدّ وصف الفيلسوف الألماني هايدغر له، سنجده عبر صوت زرادشت يشرع دون توانٍ بنصح من يستمعون له، فيغشاهم بفيض عجيب، ما اعتادوا مثله من أحد قبله. يبشرهم بموت الآلهة المتخذة أصناماً؛ آلهة هلكت من فرط ما بجلوها زوراً وبهتاناً واتخذوها من دون الحق غرضاً لتقاليدهم المقدسة. 
ثمة قداسة أخرى مضمرة في الرفض والإصلاح يرشدنا لها نيتشه.
نحب حياتنا، لا اعتياداً لها، لكنه اعتيادنا على حب الحياة. ذلك الاعتياد النيتشوي سيحول طريق المحبة القصوى؛ محبة الإنسان الكامل، متجهة في أبعد مدياتها صوب إله غير معلن، كمطلق أمثل. الإنسان في نظره كائن ناقص، وهذا النقص إذا ما أحببناه سيكون مدمراً.
 
حكمة المصلح
يريد نيتشه للإنسان تصالحاً يومياً مع النفس ولعشر مرات، فربما في قهر تلك النفس مرارة، ولكن الأمرّ من هذا، بقاء الشقاء وتناميه حتى يصبح مصدر إزعاج لهناءة الرقاد. نهارنا سيكون محمولاً إلى تلك اللحظة الحاسمة للإخلاد، تلك الهناءة، من يوفق لها سيصبح بالخير ملهماً.. الخير يبدأ من الصلح مع النفس. التصالح النيتشوي بالضد من الإفساد والتجهيل.. تصالحاً واعياً يضاد الإغباء والتسفيه والحط من القيم بالسوء والعيوب.
إصلاح مع الذات يسعى له الحكيم، وعلى الإنسان المثقف في هناءة وعيه، أن يعمل به عميقاً، من خلال رتق ورفو الأخطاء، وتصحيح وتقويم وتهذيب الفكرة بالتصالح العشري اليومي.
يبحث زرادشت عن الرفيق الباحث والمحاجج والمساجل. عن الصاحب المعارض، والقريب المقادح اللجوج، ذلك المماري والمناظر في النقاش، شرط أن لا يكون (أكثر شيء جدلاً) خصومةً في الباطل.
ينشئ نيتشه بمناوأة واعية أسلوباً جديداً لتخاصم والتعارض أو (التعادي).. معارضة لا تخالف وتعاكس فحسب، بل تستحدث مخالفة تثير العقل، وتتخذ من التفرد قيمة. والسؤال الذي ستجيب عنه فصول الرواية، ترى إلى أي مدى كان زرادشت مقنعاً ومقبولاً في معارضته؟
 يبحث زرادشت عن الرفيق الذي لا يصمت، فرفقة الصموت موحشة أكثر من الوحدة. هكذا نرتقي إلى جنة حاضرنا، فوجدان كل شيء سيبدأ من الحوار، وتحديداً من الكلمة.. الكلمة هي الخلود وهي اللبّ والمهجة الباقية. كلمة الأدب تعنينا هنا، ولكن علينا أن لا ننتظر معجزة آنية للكلمة في عالم الأفعال والأحداث النافذة.
الأفكار التي بثها نيتشه في ثنايا كتابه لم تكن منهجاً وفق البناء الفلسفي الشامل، لكنها وصلت عبر الرموز في حديثه وحكمه وقصائده المدهشة، مؤسساً لمنهج جديد في الكتابة، ومقفلاً الباب خلفه بقوة على الفلسفة الألمانية، كما قيل عن تفرّده وعبقريته.
التباهي بالعدو
في رواية (عندما بكى نيتشه) للروائي والباحث النفسي أرفين يالوم، نجد أن الكاتب يصنّف نيتشه، باعتراف أحد أبطال روايته، كأهم طبيب نفسي مرّ على وجه الأرض، أسهم في سبر أغوار النفس البشرية وعرّف بعللها. تلك الرواية التي حاكت لمحات من حياة نيتشه، وكيف كان يباهي بعداوته لنفسه؛ طريقاً للتفوق عليها، لا يمكن استيعابها بروية دون المرور على زرادشت، الذي سنرى ملامحه في حبر أرفين يالوم.
أشياء كثيرة في هذه الحياة لا تستحق أن نبغضها أو ننشغل بها، مجرد تجاوزها سيكون تجاوزاً للتنغيص والهم والكثير من الكآبة والحزن، التعاسة هي أن يكون لك عدو لا تستطيع التباهي به. مع هذا علينا الحذر من مزالق القلوب فهي تجر العقول إلى الضلال الأكيد. من يقرأ «هكذا تكلم زرادشت» سيتبين له معنى العدو المجتمعي والعدو السياسي والعدو الأخلاقي، وسيدرك ما العقل في نظر نيتشه، وما القلب في السياسة والأخلاق، وفي التباغض والتسالم. 
من قرأ «هكذا تكلم زرادشت» قبل عشر سنوات، وسيعيدها اليوم سيلقى فارقاً ملموساً بمستجد الأفكار لديه. وربما سيجده الأكثر موائمة لهذا الزمن في نقده وتشخيصه للعلل.
ومن لم يطالع هذا الكتاب بعد، فقد خسر الكثير، والخسارة هنا في اكتشاف الذات أولاً. ربما، أكثر مما سيضيفه هذا الفيلسوف؛ فما تربحه يأتي أولاً من أعمق نقطة في نفسك، كما يقول زرادشت، أو (وربحٌ لم يكن منكَ.. فذاك الربح خسران) كما يقول شاعر بغدادي قديم.