كيفَ نفهمُ الخيرَ في التاريخ؟

ثقافة 2022/01/26
...

  د. عبد الجبار الرفاعي
 
(1)
 التراث بحرٌ يغرقُ فيه مَنْ لا يعرف السباحة أو يستسلمُ لكلِّ ما يطفو على سطحه. التراث متاهة يتخبّط في كهوفها المتعرّجة أولئك الذين لم يتشبّعوا بمناخاته، ولم يتعرّفوا على أنظمة إنتاج المعنى فيه، ولم يقفوا على مدياته القصيّة، ومَنْ يفتقرون لعقلٍ نقدي ينجيهم من أن تغيّبهم أنفاقه عن عصرهم. 
 الاستيعابُ النقدي للتراث ضرورة لمنْ يتخصصُ في علوم الدين. هناك من يكتب في كل علوم الدين، غير أنه يفتقر لتكوينٍ تراثي وخبرةٍ في دروبه المتشابكة، ولم يتكون أكاديميا في أية جامعة رصينة، وغالبًا ما يكتب من دون أن يقرأ التراثَ قراءةً صبورة. 
مَنْ ينشد تجديدَ فهم الدين عليه أن يتسلح بتكوين تراثي عميق، ووعي علمي في الإنسان والمجتمع، كي يستطيع أن يكتشف شيئا من البنية اللاشعورية الغاطسة للفرد والمجتمع. 
كل كتابة في تجديد فهم الدين لا تصدر عن تكوينٍ تراثي وخبرةٍ في العلوم الإنسانية تمكث على السطح، مهما كان ذكاءُ الكاتب ومهارته في الكتابة.
 لا تراثَ خارجَ التاريخ. مَنْ لا يؤمن بتاريخية التراث يعجز عن الوعي بقدرة النصوص المقدسة على استئناف وظيفتها في إنتاج معنىً ديني يواكب تحولاتِ الحياة وإيقاعَ التغيير المتعجّل. دراسة التراث ضرورة تفرضها الكيفية التي نريد أن نحرّر بها حياتَنا من وصايته وسطوته. يصير التراث بلا إعادةِ نظرٍ ونقدٍ علمي كمَنْ مات أبوه، وهو لا يعرف كيفيةَ تحنيطه أو دفنه، فيحمله كلَّ عمره على أكتافه، حتى يستنزف طاقاته وينهكه ويقعده عن بناءِ حاضره وإنجازِ أيّ شيءٍ لمستقبله.
التفسيرُ اللا تاريخي للتراث أحدُ الثغرات الأساسية في تعليمِ الدين ودراستِه. تاريخُ علوم الدين، وظروف نشأتها، والواقع الذي ولدت فيه، وكيفية تشكلها، مكونٌ أساسي في إنتاج هويتها. تظل معرفتها ناقصةً لو افتقر الدارسُ لاكتشاف كيفيةِ تشكلها، وظروفِ نشأتها، ومراحلِ تطورها. تاريخُ علوم الدين ليس محايدا، ففي نشأتها نعثرُ على العلل الخفية لولادتها، وينكشف الدورُ الأساسي للسلطة في تكوينها، وحرصُ مؤسسة الخلافة وتوجيهُها لصناعة كل ما يمكن أن يخلع عليها مشروعية دينية، ويعزز حضورَها واستمراريتَها. خضعت المعرفة الدينية في ولادتها لمتطلبات مؤسسة الخلافة، وفرضت سلطة الخلفاء وصايةً مُعلَنة وخفية تحكمت بولادة وصيرورة ومصائر المعرفة الدينية. مصالحُ الخليفة تتقدم دائما على مصالح الأمة، وديمومة الخلافة هي المحور الذي ينبغي أن تحتشد من أجله كل الجهود، بغضّ النظر عن مصالح الناس وحرياتهم وحقوقهم وحياتهم الخاصة. 
كل محاولة للاجتهاد والتفكير النقدي خارج إطار متطلبات الخلافة مصيرُها النفي والاجتثاث. كان ذلك مصيرَ غيلان الدمشقي، الذي قطع يديه وأرجله وصلبه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك. وهكذا كان مصيرُ الجعد بن درهم الذي ذبحه يوم عيد الأضحى خالد بن عبد الله القسري والي هشام بن عبد الملك على الكوفة، وانتهى إلى ذلك المصير الجهمُ بن صفوان، الذي كان ضحيةَ قرار نصر بن سيار الكناني الوالي على خراسان سنة 128 هـ، الذي أمر عبد ربه بن سيسن فقتله. هؤلاء وغيرُهم كانوا ضحايا عقلِهم النقدي وتفكيرِهم الحرّ في محطات مريرة من التاريخ، ورفضِهم الانصياع لمعتقدات وآراء مَنْ كانوا موضعَ رعايةِ ودعم وتوجيه الخليفة من المحدّثين والفقهاء والمتكلمين. 
وقع المعتزلة ضحية تفكيرهم العقلاني، عندما فكروا خارجَ ما تسمح به المؤسسة المعرفية لمتكلمي وفقهاء مؤسسة الخلافة. عقلُ المعتزلة ورّطهم في المحرّم التفكير فيه، ولم يشفع لهم كونُ عقلهم كان الأخصبَ والأعمقَ في علم الكلام وغيره. 
الباحث الحاذق هو الذي يعلم ويعلم القراء بأن ما لم يكتبه المؤرخون لا يقلّ أهمية عما كتبوه وربما أهمّ. كثيرٌ مما كتبه المؤرخون أفرزه متخيّل جماعات متصارِعة في معتقداتها ومتضادة في مصالحها، ومتنازعة على مختلف أشكال السلطات السياسية 
والروحية. 
الصلة العضوية بين احتكار السلطة والتحكم بنشأة وصيرورة المعرفة الدينية هو ما ينبغي أن يعمل على اكتشافه الباحث في تاريخ علوم الدين. 
احتكارُ السلطة احتكارٌ للمعرفة الدينية، احتكارُ المعرفة الدينية احتكارٌ للسلطة، ذلك هو ما يختبئ وراء نشأة وتطور علوم الدين في تراثنا، وهو مالم يعلنه 
المؤرخون. 
يتحرّرُ الدكتورُ علي الديري من قراءة التراث بالتراث، لذلك جاءت محاولته في هذا الكتاب تجديديةً لا إحيائية أو إصلاحية، على وفق التمييز الذي تحدثت عنه في كتابي الذي صدر العام الماضي 2021 بعنوان: {مقدمة في علم الكلام الجديد}. 
الإحياء يبدأ بالتراث وينتهي بالتراث، وهكذا معظمُ محاولات الإصلاح. أكثرُ كتابات الإحياء والإصلاح يتكدس فيها لفظ على لفظ، ويتراكم فيها فائضُ القول، وكلمات من دون مضمون أحيانا، يشعر القارئ اليقظ بالضجر منها. 
تجديد فهم الدين يبدأ حيث ينتهي القول في الإحياء والإصلاح، ويكف دعاته من تكرار الكلام على الكلام. التجديد يبدأ بالنقدِ العميق للتراث، واكتشاف بنيته التحتية المتينة، والتعرّف على أنظمة إنتاج المعنى الديني فيه. التجديد يبدأ باكتشاف نظرية المعرفة في الإسلام التي تشكلت في ضوئها علومُ الدين. نظرية المعرفة ومناهجُ التفكير وأدوات النظر هي المكوِّن الأساسي لبنية التراث الراسخة، وهي ما يتحكم بصناعة رؤية المسلم للعالَم. إعادة بناء علوم الدين لا بد أن تنطلق من الاستيعاب النقدي للتراث والعلوم والمعارف الحديثة. علمُ الكلام ومقولاته الاعتقادية يمثِّل في رأيي نظريةَ المعرفة المؤسِّسة لطريقة تفكير المسلم، والرافدَ الذي يغذي البنى اللاشعورية المتجذرة لديه. في ضوء علم الكلام القديم تشلت علوم الدين، خلافا لما ذهب إليه بعضُ المفكرين من القول: إن الفقه هو نظرية المعرفة.
  تؤشر حفريات علي الديري في كتابه هذا على لا جدوى كثير من محاولات الإصلاح في عاَلم الإسلام المتواصلة منذ قرنين، وسطحيةَ كل كتابة لا تغوص عميقا في التراث، وتظل تعوم في الشاطئ متهيبة الخوض في الأعماق. لم تدرك معظمُ جهود الإصلاح نسيجَ السلطة المعقد الذي تشكلت في فضائه العناصرُ التكوينية للتراث، وكيف لبث ذلك النسيجُ المتماسك يعيد إنتاجَ مكونات التراث ويغذيها، إلى أن تصلب وانغلق على نفسه، وارتقت بعضُ مكوناته، في الوعي واللاوعي الفردي والجمعي، إلى بداهات يقينية لا تحتاج برهانا، ولم تعد حاجة لدى منْ يراها بداهات لأن يستأنف النظرَ فيها ويسائلها وينقدها. تحوّل التراث بالتدريج إلى سلطة تفرض على العقل التفكيرَ في إطارها ولا تسمح له بالخروج من محيطها. 
ولبثت الدراسات الأولية والعليا في الأزهر والمدارس ومعاهد التعليم الديني التقليدية والحوزات منذ نشأتها أسيرةَ قراءة التراث بأدواته، والتعامل معه برؤية وأدوات نظر ومناهج تنتمي إليه، وإن تحدثت عن إصلاح فهو لا يغادر مداراتِ التراث ولا يتنفس إلا في فضائه، ولا يبحث له عن أفقٍ بديل خارج آفاقه. في كل مرة لا تتخطى تلك المحاولاتُتيسيرَ التراث وتبسيطَ عباراته وشرحه وتلخيصه بلغة تحاكي الإنشاءَ العربي الحديث، ولا تجرؤ على مساءلة مُسلماته وقناعاتِه.