إيزابيل إبرهاردت..العشق للمطلق

ثقافة 2022/01/26
...

 هدية حسين
لا يمكن قراءة قصص إيزابيل إبرهاردت (1877 - 1904) بمعزل عن قراءة حياتها،  تلك الحياة الاستثنائية بكل تفاصيلها، إنها امرأة خارج قوانين وعادات بلدها (سويسرا) إذ تركت كل شيء في بلد الثلوج لتعيش في الصحراء تحت خيمة الشمس العربية في الجزائر، تتقن لغتها وتعيش كأية امرأة بدويَّة، وقد عرضت نفسها لكثير من المخاطر وغامرت من أجل عشقها للمطلق واكتشاف المجهول بين ذرات الرمل وسطوع الشمس، 
 
وقد اعتبرها الكثيرون امرأة غريبة الأطوار فعلاً فهي التي كتبت في مذكراتها (ما أنا إلا امرأة غريبة الأطوار، حالمة، تريد أن تعيش بعيداً عن العالم المتحضر في حياة حرة بدوية) لقد امتلكت الكثير من روح الفرسان وقاومت كل ما من شأنه أن يحط من قيمة المرأة في زمن صعب على الصعيدين الاجتماعي والسياسي.
هذا الكتاب أصدره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت ضمن سلسلة إبداعات عالمية، وأفرد المترجم لحياتها العديد من الصفحات ليطلعنا على حياة تلك المغامِرة، نشأتها وعشقها للجزائر والوسط الفكري الذي عاشت فيه وما هو السبب وراء منعها من دخول الجزائر، وماذا فعلت لكي تعود إليها، وكيف جاءت ميتتها الغريبة كحياتها بعد أن تركت وراءها إرثاً أدبياً وسيرة حياة عاشتها بإرادة لا تلين على الرغم من أنها مجهولة النسب وسُجلت يوم مولدها (لقيطة) لكن هذه اللقيطة لم تشأ أن تمر مروراً عابراً في الحياة، ولعل حياتها في الجزائر هي الثمرة الناضجة التي منحتنا إياها بهذه الصورة المدهشة لامرأة وقفت ضد التيار وغيرت مجراه لصالحها.. يطول الكلام عن حياة إيزابيل إبرهاردت وبإمكان القارئ أن يعود للكتاب والى العديد من الدراسات عنها، وسيجد الكثير من التفاصيل الغريبة والمدهشة والتي تقترب من الأسطورة، أما هنا فسنتناول القصة الأطول من بين القصص (ياسمينة) بسبع وثلاثين صفحة، لنعرف كم أن هذه المرأة، إيزابيل إبرهاردت، تشرّبت وتشبّعت بتراث الجزائر وعادات أهلها في ذلك الزمن، إنها تكتب كما لو أنها كاتبة عربية تعيش الحياة كغيرها من الكاتبات العربيات.
بين الأطلال الرمادية وغبار الماضي اجتازت ياسمينة طفولتها غير السعيدة، تأخذ قطيع الأغنام لترعاه في السهل المليء بالصخور والأحجار، تترك القطيع يبحث عن الكلأ وتجلس على الصخور تغني بصوت رخيم أغنية حزينة، غير مكترثة بما يأتي من قادم الأيام، لكن الأيام تخبئ لها قصة ما كانت تخطر لها على بال، قصة مرسومة بيد قدر سيأخذها بعيداً عن ديارها بل وحتى عن نفسها، كان عمرها أربعة عشر عاماً عندما بدأت حياتها تتغير، فذات يوم أخبرتها أمها بأن أباها سيزوجها لمحمد الأعور، لم تعترض، فهي متيقنة أن كل شيء مكتوب، على الرغم من أن الأمر زاد من حزنها واتسعت كآبتها، وفي هذا الوقت وضع القدر أمامها ضابطاً فرنسياً يدعى جاك، كان على جواده يتنزه في السهل عندما وقعت عيناه على ياسمينة، وكان قد انتُدِب للعمل في المكتب العربي، اقترب منها طالباً جرعة ماء، لم يكن يعرف العربية وهي لا تعرف الفرنسية، ولا يعرف عن الجزائر سوى ملحمتها بالنضال ضد الفرنسيين
المحتلين.
تمنح إيزابيل إبرهاردت بطلها الصفات التالية (تربى على صرامة معهد ديني في الريف، منغلق نسبياً على روح العصر، ميال للتمرد، شكاك لا يرجع عن رأيه) هذه الصفات تناسب ما سيحدث في هذه القصة المؤلمة، إلا أن الفارس الذي لا يرضخ سيرضخ لنبضات قلبه حين تحرك عندما شاهد راعية الغنم التي هربت منه في اليوم الأول، أما في اليوم التالي فقد تغير الأمر، تحدث معها بالإشارة، لقد كان الأمر صعباً لكنهما تفاهما بالحد الأدنى، ومن أجل ذلك عزم على تعلم اللغة العربية، أما ياسمينة فقد كانت ترى فيه شاباً وسيماً ومأمون الجانب، وتطورت علاقتهما، وعندما أراد أن يتزوجها وقف حاجز اختلاف الدين بينهما، قالت له بأنها مسلمة وهو (كافر) هكذا لُقنت بأن غير المسلم كافر، كما أنها تعلم من قومها بأن الفرنسيين (أعداء) احتلوا البلد وفرضوا الضرائب الباهظة، لكنها شُغفت بهذا الفارس، وشغف بها هو أيضاً، ومن أجل هذا الحب الذي اشتعل في قلبه فقد أسلم، أسلم على يدها مردداً الشهادتين اللتين قرأتهما عليه، لقد فعل ذلك من أجل إرضائها فقط، أما قلبه فلم يؤمن بما
فعل.
كان جاك يعلم بأن علاقته بهذه الراعية لن تستمر، فهو لا يمكن أن ينفصل عن أسرته في فرنسا، وعندما قرر أبواها تزويجها طلبت من جاك أن يخبئها في الجبل، في هذه الفترة جاء تعيينه في مكان آخر، في الجنوب الوهراني، مكان بعيد عن ياسمينة، قال لها بأنه سيسافر إلى فرنسا وسيعود، لقد كذب عليها لكي لا يؤلمها، وهكذا انتهت قصة الحب بينهما، لكن قصة (ياسمينة) لم تنتهِ بعد أن فقدت عذريتها، بقيت مختبئة في الجبل ثم وجدت طريقة للخروج من المكان، وتعرفت على مغنيتين أخذتاها إلى إحدى مقاهي الترفيه لتغني هناك فتغيرت حياتها إلى الأبد، هناك تفاصيل كثيرة في هذه القصة خصوصاً ما يتعلق بالوضع النفسي الذي سبرته إيزابيل لبطلتها، وزواجها من عربي اكتشف أنها ليست عذراء، وما حدث بعد ذلك قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه.
القصص جميعها في هذا الكتاب تؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ الجزائر سياسياً واجتماعياً، عاشتها إيزابيل ودونتها، بكل ما انكشف أمامها وما جربته، وما عرفته من طقوس زمنها، توفيت إيزابيل ميتة غير متوقعة، كانت تعيش في كوخ في الصحراء مع زوجها، وذات ليلة داهمهما طوفان فسقط الكوخ عليهما، نجا الزوج وماتت هي ممسكة بمخطوطة مذكراتها، ماتت بملابسها البدوية وهي بعمر سبعة وعشرين
عاماً.