الكتبُ وما تفعله

ثقافة 2022/01/27
...

 طالب عبد العزيز 
 
بما أنَّ فكرةَ العمودِ الصحفيّ قائمةٌ على أنَّهُ انطباعٌ وحديثٌ شخصيّ، يوميّ، أو أسبوعيّ، لكاتبٍ يوقّعهُ باسمهِ، ويمثّل فكرةً أو رأياً له، فأنني أجد الفرصة سانحةً للحديث عمّا هو شخصي، في القراءة والكتابة، وأجدني بحاجة إلى قول هذه، يوم كنت منشغلاً بقراءة رواية (العمى) لسارماغو، العمل الفلسفي المذهل، الذي ملأني رعباً، مثلما ملأني إحساساً بأهميته، وأخافني في مجلسي، داخل غرفة مكتبي، وحيداً، بين مئات الكتب، وأمام عشرات المقتنيات التي تشغل وتحتجزُ الفراغ فيها. 
هل كنتُ خائفاً؟ نعم، بل كنتُ أغلق الكتاب بين الفينة والاخرى، خشية أن أجد نفسي في مدينة ساراماغو، ولطالما تصورت نفسي أعمى بين أبطال الرواية تلك، أو أن أصبح أحد (سكانها) لذا، كنت أفضّل البقاء في الغرفة، ساكناً، لئلا أفاجأ بمن حولي، وقد أصيبوا بالعمى. ولا أخفي أنني لم أكملها حتى اللحظة هذه، إنما فكرتُ بمشاهدتها فيلماً، ففعلت، وهكذا وجدتُ إتمامها على الشاشة أقل رعباً لي، من إكمال قراءتها، هذه  الرواية الاستثنائية، ومثلها الكثير من الاعمال العظيمة، التي يتداخل فيها المتخيل بالوقائعي، المكتوب بقصد التشويق والاثارة بالمتوقع وممكن الحدوث، تتجاوز حدود الخوف الى كل ما يتملكنا من مشاعر انسانية، مثل الحب والحياة والنبل
والجمال. 
منحتنا بعضُ الكتب أكثرَ مما منحتنا الحياة، وفعل بعضُها فينا ما فعله الحب في القلوب العاشقة، وهذا أنا ما زلت مأخوذاً بشخصية البطل (جوليان سوريل) منذ قراءتي الأولى لرواية ستاندال (الأحمر والأسود) لم تبارحني صورة الفتى المغامر، الذي ارتبط بعلاقة جسدية مع السيدة الشريفة مدام دي رينال يوم دخل بيت زوجها مربياً لأولادهما، فتعلق بها على الرغم من ممانعتها، موقِعا بها، وفارضاً فتوته وفتنته عليها، وهو الذي ارتبط في باريس بماتيلدا ابنة الوزير المركيز دي لا مول، القادم من الريف الى المدينة، هذا الفتى الجميل مازال الى اليوم خالداً في القلب عبر مغامراته تلك، كلما جرى الحديث عن الأعمال الروائية الكبيرة. 
مثل هذه وسواها وإن جاءت في موضع مختلف، فعلت رواية جان تولي (متجر المنتحرين) التي ترجمها وليد الفرشيشي، وصدرت عن دار مسكلياني، لتذهب بي إلى حافة التفكير السلبي، وعدم جدوى الحياة، اللعبة التافهة، أحسب أنَّ الرواية هذه أنموذجٌ آخر لقدرة الكتاب على التأثير في القارئ، وإقناعه بجدوى التخلص من الحياة، وبالطريقة التي تجدها مناسبة لك في المتجر، الذي تملكه العائلة، والمليء بمئات وعشرات الاعشاب السامة وآلات الانتحار. جان تولي الذي سمّى أبطال روايته بأسماء كبار الشخصيات والشعراء والكتاب المنتحرين من الياباني ميشيما الى الفرنسي بودلير، والاميركي همنغواي، والالماني هتلر، والهولندي فان جوخ، والممثلة مارلين مونرو وغيرهم، أولئك الذين قال لهم: «هل فشلت في الحياة؟ في متجرنا سيكون موتك
ناجحاً». 
ولولا النهاية السعيدة، التي يختمها بزواج ميشيما من لوكريشا لكانت الرواية قد أتت بأبطالها وزبائنها من اليائسين المنتحرين، على ما ظلَّ في قلبي من حب وتعلق
بالحياة.