أكثر شخصيَّة أدبيَّة شريرة أُسيءَ فهمُهَا إعادة النظر في الليدي ماكبث

ثقافة 2022/01/29
...

  هانا فلينت 
  ترجمة: مي اسماعيل
حملت الملكة القاتلة التي رسم شخصيتها شكسبير طويلا وسما شيطانيا بكونها فاتنة شريرة؛ لكن تقديم شخصيتها سينمائيا يدعو لفهم أكبر.. غاوية، متلاعبة، مجنونة، ساحرة.. هذه بعض من الأوصاف العدائية التي وصفت بها «ليدي ماكبث» منذ عرضت مسرحية «مأساة ماكبث» أول مرة قبل 416 سنة. 
كانطباع أول يرى الطلبة الذين يدرسون مسرحية شكسبير الخالدة أنها رواية عن الطموح والفضائل والخيانة والقتل؛ وان الملكة شخصية شريرة واضحة ومباشرة. الزوجة التي علمت بنبوءة الساحرات أن زوجها (القائد العسكري الأسكتلندي) سيصيرُ ملكا؛ فأقنعته بارتكاب جريمة قتل الملك والاستيلاء على السلطة، ثم إشعال حرب أهلية دموية. إنها حتما ليست بالملاك.
 
إعادة قراءة الشخصية
وصفها «مالكوم» منافس زوجها على المُلك بأنها: «ملكة شيطانية» (الفصل الخامس، المشهد السابع من المسرحية)؛ والتصق هذا الوصف بها، وقد يكون لحقيقة أن الرجال كانوا يقدمون أدوارا نسائية في زمن شكسبير يدٌ في تثبيت هذا المنظور الكاريكاتيري الفظ؛ ولكن حتى بعد صعود النساء على خشبة المسرح استمر ذلك التصوير الضيق للشخصية. تقول «إيريكا وايمان» نائبة المدير الفني لفرقة شكسبير المسرحية الملكية: «كانت تجربتي مع شخصية ليدي ماكبث صعبة جدا مسرحيا؛ فقد رُسِمت لدى المخيلة العامة كأداة للشر؛ وهذا إلتصق بالصور النمطية للمرأة عبر العصور. انها صورة لامرأة تسعى للسلطة عبر زوجها؛ وحين تربط تلك الفكرة بأنها أصبحت مجنونة؛ فقد باتت لديك خلطة سامة». هذا التقديم ثنائي الأبعاد هو ما تسعى الممثلات لتغييره؛ ومنهن «روث نيجا» التي ستقدم دور ليدي ماكبث في برودواي أمام «دانيال كريغ»، التي تقول: «أرغب بمناقشة ما أعتقد أنه «شيطنة» طويلة الأمد لشخصية ليدي ماكبث، والمسرحية تنقيب معقد لعلاقات ورغبات، وللقدر والقوة، وكأن الجميع ألصق بها كراهية النساء. بالنسبة للممثلات لا تكمن الصعوبة في أداء الدور المسرحي؛ بل في كيفية ترجمته». 
أعادت القراءات والنقد النسوي المعاصر تقييم الليدي ماكبث على نحو مماثل كشخصية أكثر تعاطفا بكثير من تلك التي جرى تصويرها تقليديا. ورغم أنه لم يجرِ اعتبارها بطلة تراجيدية كما الحال مع زوجها؛ ولم يُعطها شكسبير مساحة مسرحية واسعة أيضا؛ لكن عنوان المسرحية يقول أكثر من مجرد سقوط ماكبث المريع من الفضيلة. بل يتحدث عن سقوط الليدي أيضا؛ وبوضع هذا في الاعتبار؛ قدمت الأفلام والعروض المسرحية على نحو متزايد تفاعلا أعمق معها، ومع أفكار شكسبير التقدمية عن الجنس والأمومة والنظام الأبوي التي أصبحت ذات صلة اليوم مما كانت في ذلك الوقت، كما ترى وايمان: «لم يكن شكسبير ليستوعب ما نعنيه بحقوق المرأة أو المساواة؛ لكن ما قام به أنه تعامل مع كل إنسانٍ في مسرحياته على أن لديه شيء ليقوله، ويجب علينا الاستماع له».  
 
ما هي دوافع الليدي ماكبث؟
هناك قراءة أخرى لدوافع ليدي ماكبث؛ ترى فيها امرأة بلا أطفال تسعى لهدف مجيد؛ فإن لم تستطع تحقيق إرث ماكبث بالذرية، يمكنها ذلك بالسيطرة على العرش. كان الدور الرئيس للمرأة إنجاب الأطفال، وفي عصر شكسبير كان معدل موت الأطفال نحو واحد من كل ثلاثة؛ لذا لم يكن مفاجئا أنه لمّح بقوة أن الزوجين فقدا طفلا.. تقول ليدي ماكبث: «لقد أرضعتُ وليدا وأعرف مدى رقة حب الطفل الذي أُرضعه». ليس معلوما متى مات وليدها؛ لكن المخرج «جاستن كورزل» قدم مشهدا حرفيا في فيلمه عام 2015، من بطولة «مايكل فاسبندر» و»ماريون كوتيار»؛ حين حضر ماكبث الحزين جنازة طفله؛ وخيّم ضباب الحزن على قلعتهم وبصيرتهم. لكن فيلم كورزل ركّز على ثيمة فجيعة الأم؛ حتى جعل من مشهد سير ليدي ماكبث أثناء النوم ذروة درامية تحطم القلب؛ وأشبه باعتراف كنسي تتحدث فيه إلى طيف ابنها الميت. كانت المغالاة في المشهد ستقود لتوكيد الادراك أنها امرأة مجنونة؛ لكن أداء كوتيار المُقّيد يدل على أن الممر الى الندم قد بات مفتوحا؛ عن وعي أو لا وعي.. إنها تعي بعمق ذنب أفعالها الشريرة؛ لكن طيف طفلها الشبح يُلمّحُ أيضا أنها تتألم أيضا من إعلانها السابق أنها كانت ستقتله لتحقيق أهدافهم. 
 
نساء غير مرئيات
طرحت بعض الأفلام والمسرحيات أن خسارة طفل ماكبث كانت قريبة، وأن الليدي تجاوزت مرحلة الانجاب ثانية؛ مما جعلها شخصا يمكن التخلي عنه في عالم المسرحية؛ بينما بدأ ماكبث ينأى بنفسه عن زوجته. تمضي وايمان قائلة: «أصبحت حياة تلك المرأة اللامعة الذكية ذات الذهن الحاضر تقتصر على دور شكلي يكون شديد الوطأة عندما يصبح الزوجان أكبر سناً. كان ماكبث في أوج عطائه وقمة اندفاعه؛ بينما يُنظر إلى ليدي ماكبث على أنها تجاوزت «عزّ شبابها». وبعد أربعمئة سنة ما زال الحال كذلك نوعا ما؛ حينما تُعد بعض النساء «غير مرئيات»، ولا يلاحظ أحد جمالهن أو جاذبيتهن». 
قد يمكن فهم هذا الخيار الحاسم (في حالة ليدي ماكبث) على أنه مسار امرأة تتحرك في عالم ذكوري قاسٍ. فإذا كان للنساء طموح في أوائل عصر بريطانيا الحديثة فقد كان عليهم تحقيقه من خلال الرجال. وهناك إحساس قوي أن ليدي ماكبث قد خسرت فرصة تحقيق العظمة مرتين؛ بسبب جنسها وزوجها؛ فقد يكون لماكبث مكانة كبيرة في ساحة المعركة؛ لكنه ليس عالي الأهمية في البلاط. وسؤال زوجته: «هل انت خائف؟» لا يمكن اعتباره ببساطة تعجيزا له؛ بل إشارة الى انه قد كان بإمكانها الزواج من رجل له قوة سياسية أكبر؛ كما ترى وايمان: «هناك ثيمة مدهشة عن مأساة مختلفة لليدي حينما باتت أكبر سنا؛ فقد كان بإمكانها ببساطة أن تصير ملكة. يستمر فضول شكسبير عن ماهية المرأة القائدة، واستمر بتقديم شخصيات ذات عيوب عميقة؛ مع اقتراح وجود نساء بقربهم كان بإمكانهن أن يُبلين بشكلٍ أفضل. انه عصر كانت فيه فكرة الملكة قوية جدا». 
 
ملكة قوية التأثير
نُشِرَت مسرحية ماكبث في عهد جيمس الأول؛ لكن خليفته الملكة أليزابيث الأولى هي التي كان لها تأثير واضح على شكسبير. فعند اِعتلائها العرش تحدت الملكة أدوار الجنسين؛ فلم تخضع لحتمية الزواج، مجادلة أنها مرتبطة بالفعل بـ»مملكة انكلترا». لكنها تمسكت بهويتها الأنثوية في المظهر والخطاب؛ واصفة جميع رعاياها بأنهم «أولادها». كما أظهرت صفاتٍ ملكية (تعد خصائص رجالية بسبب التراتبية الذكورية التقليدية) للحكم النشيط واتخاذ القرار، وتمت الإشارة إليها باستخدام وصف ذكوري ملكي، مثل «الأمير» و«أمير الضوء»، وتصنيفها على أنها «ملك» في القانون البرلماني لأغراض سياسية. ولكن، وبينما تبنت الملكة اليزابيث التخنث السياسي وحكمت لخمس وأربعين سنة؛ إبتعدت ليدي ماكبث عن ثيمة «الجنس» وأضاعت طريقها؛ وهذا ما تفسره وايمان قائلة: «تعتقد الليدي أن الطريقة الوحيدة لإحراز النجاح هي إتباع مجموعة قواعد أبوية. هي ليست متعطشة للسلطة أو مقلدة للرجال؛ بل تسكن ذاتها تماما؛ لكنها تعتقد أن الطريقة الوحيدة للحصول على سطوة في العالم هي القيام بهذا الفعل الرهيب؛ وهي مخطئة تماما بشأن ذلك. ولو كانت قد تمسكت بمبادئها (وأنوثتها بهذا المفهوم) لما وقع ما وقع». 
كان شكسبير متقدما كثيرا في تصوير الشخصيات النسائية، وليدي ماكبث شخصية جرى رسمها مرارا بشكلٍ ثنائي الأبعاد. ولو كان قد خصص لها المزيد من المشاهد المسرحية؛ ربما لم تكن دوافعها لتبدو غامضة للمشاهدين ذوي الأفق الضيق. لكن الليدي تغادر المسرحية بعد مشهد السير أثناء نومها، ويُنقل خبر موتها اِنتحارا. فهل أنهت حياتها بنفسها أم قتلها أحدهم اِنتقاما؟ على المشاهد تقرير ذلك؛ لكن الواضح أن ماكبث يهتم بأمر زوجته حتى النهاية، إذ يترنح حزنا وهو يُطلّ على جثتها الملقاة أسفل الدرج حيث سقطت. ولعل العنصر الثابت الوحيد هنا هو حب أحدها للآخر.  
ليدي ماكبث شخصية معقدة متعددة الأوجه والطبقات، وتقديمها المعاصر يتحدى 400 سنة من سوء الفهم. إنها بطلة تراجيدية لا ترتبط بزمن ما. «ومن غير المنطقي تصويرها على أنها شريرة أو الإيحاء بذلك لمجرد أنها لم تنجب طفلاً فستكون (نوعا ما) جوفاء وعقيمة وشريرة حتماً. هي ليست البطل الشرير؛ لكنها معقدة ومثيرة للفضول. وعلينا احترامها». كما ترى وايمان. 
 
 بي بي سي