شعر ما بعد بعد الحداثة

ثقافة 2022/01/31
...

 فاليريا سافرونوفا
 ترجمة: محمد تركي النصار
     في عام 1821 تناول بيرسي شيللي ورقة وقلما وكتب مقالا يدافع فيه عن الشعر ضد العلم، واختار له عنوانا هو: (دفاعاً عن الشعر) وفي هذا المقال جملة ظلت تتردد في أذهان القراء، يصف فيها شيللي الشعراء بأنهم مشرعو العالم غير المعترف بهم.  
ظل الكثيرون يأملون برؤية نهاية لجدل استمر طويلاً جداً، لكن من الناحية العملية وبعد مرور قرنين على مقال شيللي، ها نحن اليوم لا نزال نناقش منزلة الشعر وأهميته، وهل لايزال يلعب دوراً في حياتنا بعد هذا الزمن الطويل جدا على مقال شيللي الذي عاش في عصر مختلف كلياً، حيث كانت النساء يمشين وهن مضغوطات بكورسيهات والرجال يرفعون قبعاتهم السود لتحية من يصادفونهم متنقلين جميعهم رجالا ونساء بعربات، وها نحن الآن بعد مرور مئة وتسعين عاما نعيش في عالم مختلف جذريا، عالم يسود فيه الانترنت، وتكنولوجيا النانو، والجينوم البشري إذ لا يبدو عالم الشعر المسترخي، الباعث على التأمل جزءا من هذا الايقاع السريع للقرن الحادي والعشرين.
وحينما نتأمل المشهد بشكل أشمل، لا يبدو الشعر موجوداً خارج قاعات دروس اللغة والأدب، فكيف للشعراء اذن أن يكونوا مشرعي العالم غير المعترف بهم في هذا الوضع، إذ لا أحد يبدو مكترثا لقراءة أعمالهم؟ وما الذي سينقص الناس عندما ينصرفون عن قراءة الشعر؟
حملت هذه الأسئلة وذهبت مستقصيا الى جامعة كولومبيا لأسأل طائفة متنوعة من خبراء الشعر:
أين الشعراء؟ هكذا وجهت سؤالي.  
ادرا نوفي، مديرة قسم الترجمة الأدبية في الجامعة، تقول بأن الشعراء الكبار لا يزالون موجودين بيننا، مضيفة بأنه في كل جيل ثمة شعراء كبار، وتضيف نوفي التي ترجمت كتابين شعريين، بأن هناك شعرا برازيليا مدنيا مدهشا خارج حدود ساوباولو وثقافة ساحل ريو، وكذلك في مناطق نائية مثل منطقة الأراضي الرطبة لبانتانال، اذ ترجمت كتابا شعريا لشاعر من تلك المنطقة اسمه مانويل دي باروس، الذي لم يكن يوما جزءا من المشهد الشعري، وقد عاش في الأراضي الرطبة بمزرعة أسرته لتسعين عاماً، وكتب تقريبا ثلاثين كتابا شعرياً.
بعض الشعراء المعاصرين لا يزالون يتبعون مفاهيم شعرية تقليدية عن الابداع، مايكل جولستون الاستاذ المساعد للغة الانكليزية والأدب المقارن، يوضح بأن بعض الشعراء المعاصرين يحافظون على كتابة الشعر من دون التركيز على جدته وطزاجته، إذ تكون الطزاجة في هذه الحالة كأنها من المتبنيات القديمة المستهلكة التي عفا عليها الزمن. 
الحدود بين الشعر والموسيقى مثلا تبدو في أذهان البعض غير واضحة، ساسيكيا هاملتون الاستاذ المساعد للغة الانكليزية في جامعة برنارد تشرح العلاقة بين الاثنين: الكثير من القصائد العظيمة بدأت اغنيات، وكان الشعراء الغنائيون منذ أقدم العصور يصطحبون قيثاراتهم معهم أنى ذهبوا حيث لا يمكن الاستغناء عن العين والاذن في قصائدهم، وتتفق مع هذا الرأي سارة سيد الطالبة في جامعة فوردهام معلقة بأنها دائما تنظر للراب على أنه شعر، ومغني الراب الجيد هو ماهر في العزف على الكلمات بشكل ممتع يعبر عن فكرته بدقة. 
ويبدو ستيفن ماسيملا وهو أستاذ مساعد للغة الانكليزية والأدب المقارن أقل انحيازا لشعرية الموسيقى خصوصا البوب، قائلاً بأنك عندما تنظر إلى موسيقى البوب وتكتب الأغاني على الورقة فإنك لا تشعر بتلك المتعة من دون الكيتار، صحيح أن نجوم البوب نشروا كتباً شعرية لكنها ليست بمستوى أغانيهم غير أنهم يطمحون لإضافة ميزة الشعر الراقي الى تاريخهم الفني.
  ولا يختلف اثنان على أن تأثير التكنولوجيا هو الشيء الذي لا يمكن تجنبه في الشعر المعاصر، مع اختراع وتوسيع وسائل التواصل الاجتماعي، وقد خضع الشعر لتغيير كبير، فلم يعد الأمر مقتصرا على بضعة شعراء ينشرون قصائدهم، فالنشر الشخصي الآن أصبح سهلاً جداً، وبإمكان أي شخص أن يكون شاعراً.
خلال عطلة الشتاء لاحظت أن ابنة اختي تمبلر البالغة من العمر أربعة عشر عاما والتي صارت مؤخرا تغطي قمصانها صور روبرت شيهان* غدت فجأة مهتمة بالقصائد الطويلة والملاحظات الصعبة عنها.
والعديد من زملائي صاروا يتساءلون عن شعر المراهقين الذي يلاحظونه في كتابة اليوميات، فيما تقوم أختي بعرض قصائدها أمام نقاد النت الجادين. 
شيء ما تغير حتما خلال العقد الماضي، فالأنترنت فتح عالما من اللغة، النصوص، الأرشيفات، خارج الكتب المطبوعة، والصحف المخفية، والمدونات والايميل التي لم يكن بمقدور أحد أن يصل اليها من قبل.
  يستخدم الشعراء اللغة لصناعة القصائد، والآن صار بمقدورهم أن يشترواً عدداً لانهائياً منها كما يقول بعض الأكاديميين، فيما يشير ماسيميلا لحالة أخرى، وهي أنك الآن تحظى بجمهور واسع عندما تنشر قصيدتك على النت حيث تبقى محفوظة لفترة طويلة هناك.
لقد ساعد عالم التكنولوجيا الشعر والشعراء على الانتشار سريعا وكذلك ألهم العديد من هؤلاء الشعراء المعاصرين.
في قصيدة (كومبيوتري) لتشارلز بوكوفسكي يشرح الشاعر كيف أن العديد من أصدقائه نصحوه بعدم اقتناء كومبيوتر لأن ذلك سيحجم من خياله الشعري، لكن بوكوفسكي قال بأنه على العكس من ذلك فالكومبيوتر وعالم الانترنت قد وسعا من خياله وألهماه الكثير من القصائد.
ويضيف ماسيميلا بأن ثمة مجموعة من الشعراء المولعين بالعلاقة بين الشعر والتكنولوجيا حيث توجد مدرسة الشعر التفاعلي وشعر الكومبيوتر، وكما هو واضح فإن الشعر فن مرن وقابل للتكيف بسلاسة مع التطورات التكنولوجية.
صحيح أن الشعر يجيد تحقيق قفزات في العصر الحديث بجمهور واسع لكن الطلبة هذه الأيام لا يعرفون بالضبط دور وأهمية هذا الفن في زحمة انشغالاتهم للبحث عن تخصصات مختلفة ينوون التقديم اليها باحثين عن طرق ميسرة لدفع نفقاتهم المادية وتكاليف دراستهم.
فكيف يمكن للشعر أن يكون مفيدا لهؤلاء الطلبة؟
وأين يضعون (اقرأ القصائد كل ليلة) في سيرهم الشخصية عندما ينوون التقديم للوظائف؟
وما الذي يجعل الناس يعودون في كل مرة للشعر؟
اريك غري الأستاذ المساعد للغة الانكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا يشرح نص شيللي (الشعر هو الأكثر عملية، وفائدة للجنس البشري من أي مسعى آخر، اذ يقول أريك بأن شيللي خص الشعر بتكريم مميز لأنه يمنح الناس القدرة على التساؤل عن محيطهم والاهتمام بالمعلومات وفحصها أكثر من مجرد تكرارها، مضيفا بأن شيللي كان يريد أن يقول بأن الكلمات متاحة بشكل غير محدود لأنها أدوات ابداعية للروح الانسانية إذ تنعدم الحواجز والقيود أمام عوالم الخلق الابداعي اللانهائية.
كل الاساتذة الذين قابلتهم يبدون مصرين على استبعاد ما يسميها ماسيميلا (الاسطورة الدائمة) فيما يؤكد جولستون أن تعبير (عظيم) غير دقيق ولا يعبر عن الموضوع بوضوح، فمن نسميهم بالشعراء العظماء في فترة زمنية هو ما يوضح لماذا يقرأ الاغريق القدماء وطلبة جامعة كولومبيا الشعر بالاهتمام ذاته، وهي الفكرة التي عبر عنها عزرا باوند بالقول  بأن جميع الأزمنة معاصرة، كما يحصل الآن بلجوء العديد من الناس لكتابة وقراءة الشعر إذ يتفق العديد من الدارسين والمهتمين بأن قراء الشعر في الولايات المتحدة مثلا قد تضاعف عددهم بشكل كبير خلال العقود الأخيرة ما يجعل فكرة أن الشعر لم يعد له مكان في هذا العالم مجرد وهم، وبدلا من ذلك يتجاوز الشعر الوهم المتحول لجميع الازمنة ويظهر شيئا مؤثرا ومهما في حياة الناس. 
* عن موقع كولومبيا ديلي سبكتيتر