عن الحداثة والمعاصرة

ثقافة 2022/01/31
...

برهان الشاوي
الجدل الفكري المفاهيمي يدور منذ عقود حول مفهومي «الحداثة» و»المعاصرة». وهناك في عالمنا العربي والإسلامي يتم الربط بينهما بشكل تعسفي، بل إن البعض صار لا يكتفي بمفهوم الحداثة وإنما صار يستخدم مفهوم «ما بعد الحداثة» في حياتنا الفكرية والاجتماعية. 
في رأيي نحن إن كنا قد استوردنا التقنيات الحديثة في المعمار أو وسائل الاتصال أو الأسلحة أو أجهزة التعذيب والبناء المعماري للسجون من الآخرين، فهذا لا يعني أننا دخلنا عصر الحداثة.
سؤال الحداثة شغل الأوربيين لعقود، فمنهم من اعتبر عصر (الحداثة) بدأ في القرن الخامس عشر مع غوتنبيرغ واكتشافه للمطبعة. ومع اكتشاف القارتين الأميركيتين من قبل ماجلان وكولومبس. ومنهم من اعتبر (الحداثة الأوربية) بدأت في القرن السادس عشر مع موقف غاليلو غاليلي من مركزية الأرض ودورانها حول الشمس، أو مع انتفاضة مارتن لوثر وقيامه بالإصلاح الديني في الكنيسة. ومنهم من اعتبرها ابتدأت مع الثورتين الفرنسية والأميركية، بل ذهب البعض إلى أنها ابتدأت مع سيغموند فرويد وكتابه الخالد “تفسير الأحلام».
لكن مهما اختلفت الآراء التاريخية في ذلك، فالجميع يتوقف عند القرنين السابع عشر. قرن ديكارت وسبينوزا والقرن الثامن عشر قرن إيمانويل كانت وهيغل وجان جاك روسو، مرورا بالقرن التاسع عشر، قرن فويرباخ وماركس وفرويد. ناهيك عما رافق ذلك من ثورة صناعية واكتشافات أعادت صياغة المجتمعات الأوربية وتشكل التجمعات المدينية وظهور المدن الكبرى.
البعض من باحثينا التقليديين والتبريريين يحاول أن يجد التبريرات في عدم قيام حركة تنوير وحداثة في العالم الإسلامي منطلقين من كبرياء تاريخية وبحجة ساذجة هي أن لدينا علماء كابن رشد وابن سينا الذين تعلم الأوربيون منهم وسرقوا أفكارهم وعلومهم، لكن هذا البعض ينسى بأنه مثلما تعرض كبار المفكرين في الغرب إلى الاضطهاد والقمع المستبد من قبل الكنيسة، فإن علماء المسلمين، الذين يمجدهم الآن، تعرضوا للتشريد والقمع والذبح والسجن، فقد حرقت كتب ابن رشد وتم تسميم ابن سينا وقطعت رؤوس علماء الكلام، وتم “شوي” ابن المقفع، وصلب الحلاج، بل إن معظم من نفتخر بكتبهم العميقة اليوم كانوا يعيشون في الخفاء كإخوان الصفا، بل وإن التوحيدي العميق لم يعرف به الناس ولا بكتبه إلا بعد موته بما يقارب خمسة عقود، ولا أبالغ القول بأننا إلى اليوم نعيش حصارا فكريا حتى هذه اللحظة.الحداثة الأوروبية لا تحدّها بداية واضحة، فهي تضرب بجذورها عند الإغريق والرومان. وهي مجمل ما انتجه العقل الأوروبي الذي مر بمنعطفات عقلانية وغير عقلانية، لكنه كان أصيلا في عقلانيته مثلما كان أصيلا في لاعقلانيته كما يشير إلى ذلك جورج لوكاش في كتابه المهم “تحطيم العقل”.
بعض المؤرخين والمفكرين العرب يحدد دخولنا عصر الحداثة بدخول نابليون إلى مصر وحمله المطبعة معه. وبعضهم يربطها بمحمد علي باشا والي مصر. ومنهم من يربطها بسقوط الدولة العثمانية العسكري في بداية القرن العشرين، كما أن آخرين يربطونها ببعض المفكرين من نهاية النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كجمال الدين الأفغاني والطهطاوي وطه حسين.
أعتقد أن الإشكال الحقيقي في “حداثتنا” التي يتحدث عنها الكثيرون هي أنها (حداثة) مزيفة وناقصة وغير أصيلة. فهي نصف حداثة مستوردة، بمعنى أن الحداثة تعني قبل كل شيء الأصالة في الصراع وكذلك تعني المعاصرة. نحن استوردنا كل شيء تقريبا من الغرب، وحياتنا الحالية فيها الكثير من معالم المعاصرة لكنها تفتقد الأصالة. البعض يخاف من كلمة “التنوير” أكثر مما يخاف من كلمة “الحداثة” لأن مفهوم الحداثة ملتبس.. إذ يفهمه أغلب الناس بأنه (المعاصرة) في اللبس والمودة والأكل واللياقات الاجتماعية والأثاث واستخدامات وسائل النقل وأحدث وسائل الاتصالات والتواصل الاجتماعي، والأسواق التجارية الفارهة، ناسين بأن كل هذا التقدم التقني صار يُستخدم أيضا في نشر الفكر الظلامي والمفاهيم الرجعية والعنصرية والدعوة إلى العنف.. وصارت الفضائيات تستخدم بقوة من أجل نشر فتاوى الظلام والتصدي لمفهوم التنوير.
إن أي حديث عن “الحداثة” من دون تنوير ديني وفكري واجتماعي ومدني يبقى قناعا مزيفا مبهرجا ويفتقد الأصالة. بل ولأكن أكثر وضوحا، فإن أي حديث عن الحداثة لا يقترب من التراث والمقدس ليأنسنه ويفككه يُعد مجرد تبرير لإعادة انتاجه.