الشعر بما أنه نسيئة وتقسيط

ثقافة 2022/01/31
...

 حاتم الصكَر
أستعير لعنوان مقالتي هذه مفردتين من عنوان وضعه الشاعر الراحل حسين عبداللطيف لتقديمه كتاب الدكتورة ولاء محمود (الجملة الشعرية في قصائد محمود البريكان) الصادر عام 2014. أراد حسين أن يختزل موقف الشاعر محمود البريكان،   فكانت المقدمة بعنوان (النشر بالنسيئة والتقسيط). وبهذا أكد  قناعاته عن الشاعر محمود البريكان. 
 
ففي معرض نفيه لوصف (الصامت) الذي أشاعه النقاد عن البريكان كما يقول،  يذهب إلى وصفه بأنه (يمشي على أطراف أصابعه في النشر). ولا نفهم وفق الصياغة الشعرية لقناعة حسين، إن كانت تلك فضيلة للبريكان، أو أنها تبرير لتباعد نشر
قصائده. 
 حماسة حسين عبداللطيف لنفي الصمت عن الشاعر وشعره، تثير قضيتين تهمان قراء شعر البريكان ونقاده. وهما: انقطاعاته الطويلة عن النشر، وابتعاده عن التفاعل مع المحيط الثقافي. ما أفقده حقه في الكتابة المبكرة لقصيدة التفعيلة الحرة. وتمسكه بتلك الريادة مع نفسه وفي جلساته. فيما يبدو أن صفة المنعزل والمنزوي لم ينفها أحد. ويمثل حسين لذلك بتعارف البريكان مع السياب ببغداد عبر شعرائها، مع أنه ابن مدينته. 
 يستخدم حسين معلوماته عن البريكان، بحكم صداقتهما الطويلة، ويستجمع ذاكرته الراصدة لتطور قصيدة البريكان، ليؤكد أنه ليس صامتاً بل هو ذو (شخصية متكتمة تميل إلى العزلة والإنطواء). 
وأحسب أن محاكمة البريكان في ضوء ابتعاده عن النشر وزهده به، وتخوفه منه، لأسباب مختلفة، تجعل حالته تداولية وموقفه ظرفياً أو رد فعل.. وهذا في رأيي تصغير لموقف الشعر من كتابة الشعر ذاته. وليس في
نشره.
وبمتابعة التواريخ التي ذكرها حسين في التقديم، لتسلسل بواكير البريكان، وما تلاها زمنياً يتأكد زهد البريكان أحياناً بالكتابة ذاتها. التردد، أو الانقطاع عنها. وهو ما نرجحه عبر القراءة. في الملحق الغني بالنصوص الذي وضعته المؤلفة في الكتاب، وأماكن نشرها، وتوثيق تواريخها كتابة
ونشراً.
كنت قد وصفتُ حالة انعزال البريكان عن الانغماس في الحياة الثقافية التقليدية، وتفاصيلها الرتيبة، بأنها ثمرة لفضيلة الصمت الذهبية. من حيث أنها تهبه التأمل في المشهد كله، عبر فنار الترقب، إذ يرى منه، وعن بُعد، سفنَ الكتابة تبحر في موجات متتابعة، أو تعود محملة بالمختلف والمتنوع.. تماماً كما يفعل حارس الفنار في قصيدته المعروفه. وذلك ما ينسبه حسين عبداللطيف إلى مزاجه وطبيعته.
سيتعهد الآخرون في إعطاء ميلاد لقصائده، كما تفعل القابلة في غيبوبة الوالدة. لم يترك البريكان ديواناً. وهكذا ولدت قصائده عبر أكثر من قابلة. ولادة النشر بالتأكيد لا الكتابة. وما كان راضياً عن ذلك. بل حذّر مراراً من الاقتباس، وإعادة النشر من دون إذن خطّي منه.
تعود آخر قصائده المكتوبة فترة انقطاعه الطويلة إلى عام 1969، وظهرت منشورة عامي 1969 و 1970، بعودة واضحة للكتابة والنشر معا. وما ظهر بعد ذلك خلال الأعوام التالية، ما هو إلا إعادة نشر لقصائد منشورة له، في أوقات سابقة، وبعضها من بواكيره، وما تلاها، قام ناشروها باستعادتها من الأرشيف، من دون علم
الشاعر.
ستأتي عودة البريكان الأولى للنشر عام 1993. إذ استطعنا بجهد مضن، وبتوسط الشاعر الراحل رياض إبراهيم، ومتابعته الحثيثة وصلته بالبريكان، أن نحصل على ثماني عشرة قصيدة اختارها البريكان بدقة وعناية، ووضع لها عنواناً هو (عوالم متداخلة)، وأثبت تحت العنوان عبارة (قصائد 1970- 1992). كانت القصائد المنشورة في مجموعة (عوالم متداخلة) هي جزء كبير مما كتبه بين تلك السنتين. والمهم هنا تأكيده أنه لم ينشر شيئا بنفسه منذ عام 1970 الذي أشرت إليه آنفاً. وزمن الكتابة يضيف مستنداً لدعوانا، بأنه انقطع عن الكتابة منذ تلك السنة. 
هنا يصبح وصف حسين لحالة البريكان بأنها النشر بالنسيئة و التقسيط. لكنني أعممها على الكتابة أيضاً. وذلك يؤكد توجسه وعزلته وصمته، طبيعةً أو مزاجاً تسلطا عليه.
ظهرت القصائد في عدد (الأقلام) المزدوج 3 - 4/ 1993، بمقدمة نقدية مني بعنوان (الذكرى تلاعب النسيان)، نشرتها في كتابي (كتابة الذات) عام 1994. كان لقاؤنا به مؤثراً، في بيته بالبصرة، إذ أعد مائدة صغيرة يتوسطها إبريق شاي وكؤوس بعدد الضيوف (صحبني في لقائي ذاك الشاعران الراحلان رياض إبراهيم وحسين عبد اللطيف). كان البيت الذي يسكنه وحيداً غارقاً في الظلمة، عدا الغرفة التي جلسنا فيها، بينما تنبعث أصوات الموسيقى من جهاز يضعه في غرفة نومه. اتضح لخوفه المفرط على القصائد، وحرصه على ظهورها بالشكل الخطّي الذي يثبته هو، في المسودات التي اعتمدناها في الطباعة، وأكد على مراجعتها بدقة.
يعمل البريكان على شعره بحس وتنظيم فائقين. يفهم الشعر كرسالة إلى أعماق النفس، ومنها بالضرورة. واللغة الشعرية (مادة الشاعر في تجسيم ذاته) ويعلن ضجره من (اللغة الفضفاضة، المتميعة العائمة) ويحذر من (اللعب بالكلمات وانتهاكها).
ويحدد طموحه في أمرين: (أن تكون الكلمة محددة تماما من ضرورتها في السياق، وأن تكون ذات إيحاء غير محدد..). 
وبهذا نستطيع قراءة قصائده، ومكونها اللغوي الذي يعول عليه، ودلالاتها، أو ما توحي به كلماتها، بحسب تعبيره.
كانت مرحلة (عوالم متداخلة) تتسم بتأمل الشعر والقيمة اللغوية له، والتنضيد الخطي للنص، ولدور السرد في الكتابة الشعرية. وذلك سينقذ قصائده من غنائية عائمة، اتسمت بها بواكيره. كما تنبه للإيقاع، لا بكونه حاصلَ ما تعطيه الأوزان وتفعيلاتها، واطراد القوافي. لذا تنازل تماماً في هذه المرحلة عن التقفية. ومزج التفعيلات بطريقة لا تسمح بهيمنتها فنياً أو جمالياً. وزاد من تفاصيل السرد، وتحيين الزمن، وتثبيت الأمكنة في نصوصه. وانهمك في تحميلها أفكاراً يغلب عليها التجريد
والـتأمل. 
كما فتح لشكل القصيدة مقترحاً جديداً، هو نسق البلّورات. وهي مجموعة أخذت عنواناً واحداً، هو ( بلّورات). وضمت جملاً شعرية لا تتجاوز السطر أو السطرين. هي نمط من شذرات، ستشيع كتابتها لاحقاً، مثل قوله:
في نقطة واحدة يشف عمق الكون
..........
إقرأ ظلال اللون
تلك التي ليس لها لغة
لقد صار لنص البريكان وجود جُملي، لا سطري أو شطري.
وهذا ما تدرسه الدكتورة ولاء محمود في كتابها الذي قدم له الشاعر الراحل حسين عبداللطيف. فهي تنوه بالمكون الصوتي والصرفي في لغته. والبناء النحوي الذي يشمل الزمن والفعلية، والأسلوب. وتتقصى البنى الدلالية عنده. وتختم بتبويب موضوعاته، فتلخصها في ثلاثة، هي: موضوعة استشراف المصير، وموضوعة الانتظار، وموضوعة السجن. وتشير إلى أن (الثيمتين الأخيرتين تتداخلان في الاستشراف المصيري وتبدوان وجهين له).جُمل البريكان الشعرية لا تنتهي مستقلة. بل تتداخل، وتتصل ببعضها على الوجود السطري. لذا يهتم كثيراً بعلامات الترقيم، ويحرص على إثباتها في نصه. ويحتفل بالشكل الخطّي الذي يبدو مقصوداً بعناية، ليخدم الدالة المراد توصيلها.