تمثُّلاتٌ شعريَّة الآيروتيك الحسِّي

ثقافة 2022/01/31
...

 غسان حسن محمد
راكزاً مِهمازه في طينة الخلق والابتكار وبناء التصوّرات واستيلاد الأفكار والتعرّف على أقانيمها ومُناخها وتضاريسها الفنيّة ضمن دائرة المعارف وتُرجمان  الرؤى. يمضي الشعر فاعلاً ومنفعلا ضمن خارطة الإبداع الفنيَّة والجمالية كأول جنسٍ حاكى الوجود وأفاض خيالات لا محدودةٍ في عالم كوكبنا الأزرق. مسبارُ الكشف وأهاب الفكرة، والأخذ بيدها، نحن رقي الفنون وتجسداتها على مسرح الخيالات وكشوفات المعنى وإدهاش الأنفس الشفيفة وترقيق شراعها المبحر في عوالم الوحشة والمجهول.
 
أنْ تمسكَ بالأثير غير العيّاني وتشكِّل منه صُوراً تأخذ بشغاف الألباب إلى عوالم مُستحدثةٍ لن تمرَّ على خاطرٍ تُحاور الحسَّ بطاقاته الفذّة اللّامحدودة، وتنزلها إلى مسرح المُدرِك بمحوريه العقلاني واللّاعقلاني، تلك هي مَزيّة لا يتمكّن من إذابتها وتخليق بنياتها الصورية الحسيّة والوجدانية والعاطفية سوى إبداع
الشّعر.
الروح ومدياتها اللّامحدودة في الانفتاح على فضاءات التأويل والتفسير والتحليل والتركيب واستنطاق الرؤية البصرية والفكرية في عينها النقدية الثالثة، وبيان قدراتها وفواعلها في منظومة المعارف والثقافات. والحسَّ المُتّقد جذوة لا تنطفئ في سبر معاني الإنسان وقيمه الإنسانية، كلاهما يجتمع في بوتقة الشعر مثمراً آيات الغزل والحبّ والعواطف الجيّاشة. 
الشعر بأشكاله الثلاثة: (الشّعر التّشطيري التُّراثي القديم، والشّعر التفعيلي التجديدي الحر، وقصيدة النثر)، وإن تباينت تلك الأشكال الشّعرية في تعدّدها، فإنّها في الأعم الأغلب تشترك في مزاولة الهمِّ الإنساني الوجودي، والمعيش/ الواقعي، والافتراضي (البديل/ المُتخيّل غير
المرئي).
في كتابه الموسوم (تَمثُّلاتُ شعريةِ الآيروتيكِ الحسّي في غزليات يحيى السَّماوي الجماليّة)، والصادر بطبعته الاولى 2022 عن مطبعة «أشرف وخلدون» بواقع (208) صفحة من القطع المتوسط. يمضي الدّكتور جبَّار ماجد البهادلي في مشروعه الثقافي النقدي الحديث معتمداً  رؤيته النقدية الفكرية الثالثة، وحفرياته المعرفية الكاشفة على خُطى (المنهج التّكاملي النقدي) حيث يوضح البهادلي مضان المنهج التكاملي بالقول: «المنهج النقدي التكاملي يأخذ من كل المناهج النقدية النسقية الحديثة والسياقية القديمة دون التقيّد بمنهج نقدي معين من تلك
المناهج. 
وذلك كون أن النص الأدبي الأبداعي هو الذي يحملك على سيرورة هذا المنهج، لا ان تحمل النص أو تجبره على سياق المنهج الخاص الذي تروم الاشتغال عليه». يمضي البهادلي في معاينة تجربة الشّاعر يحيى السّماوي الّثرة الكبيرة، وبيان اِصطلاح مفهوم (الآيروتيك الشعري الجمالي الرُّوحي الصوفي) عن غيره من مفهوم (الشعر الآيروتيكي) الحسّي الرغائبي الابتذالي وتمثُّلاته في مدونة السّماوي الشعرية (تًيمّمي
بِرَمادي). 
موضوعة مستحدثة قلّما تطرّقت إليها النقديّة العراقية والعربية الحديثة بهكذا تحليلٍ وتركيبٍ وتفسيرٍ وتأويلٍ بحثي ألمَّ بتنويعات الآيروتيك الغزلي الحسّي الرّوحي لتمظهرات المرأة في مصفوفة قصائد شعريّة السّماوي (تيمّمي
برمادي).
يَذكر الدكتور البهادلي في تصديره للكتاب «إنّ القصدية التي يتغيّاها السّماوي في شعرية الآيروتيك الإبداعية، تهدف بتجلٍّ واضحٍ من خلال مفاتيح هذه العتبة العدوانية المكثّفة التي تمثل (ثُريا النصِّ) المُشعة، التي تعتمد دلالاتها النصوصية على بلاغة الإزاحة الفنيّة، والمفارقة الإدهاشيّة المثيرة إلى احتضان وعي القارئ المتلقّي، وشحن استعداده النفسي، وفتح مخيلته الصوريّة، ودمج وعيه الفكري والثقافي على تقبل جماليات الآيروتيك الحسّي روحيّاً وفنيّاً في نصوص خطابه الذي أولى ثنائية التداخل بين (المرأة والوطن) جُلَّ رعايته، إذ تتحوّل فيها الذات الشاعرة وطناً يسكن مع الآخر، والوطن يغدو حبيبةً مع نوازع الذات بهذا التوحّد الرّوحي الجمالي
 والفنّي.
الآيروتيك أو «آيروس» ابن (إفروديت) في الحضارة الأغريقية، إلهة الشهوة والجنس والخصوبة والنماء والسعادة، يجد له تسميةً أخرى «كيوبيد» في الحضارة اليونانية، التي أجادت وصفه المدونة الفنيّة بصورٍ وتماثيل «إيموجية» فتارةً بلا عينينِ يُبصر بهما عيوب الحبيب، وتارةً أُخرى مُمتطياً دولفيناً أزرق، وأخرى مُحلِّقَاً في السماء السابعة بفكرته
الحرّة.الشاعر يحيى السّماوي لم يكتب الشعر الآيروتيكي بنسقه الرغائبي المُبتذل الماجن الجنساني البذيء، والمُحرَّم عُرفيّاً، بل جسد فعل الآيروتيك الشّعري كرغبةٍ حسيّةٍ روحيةٍ، عشقيةٍ، تألهيةٍ، وفق مفهوم علم الجمال «الحس رُوحي» والرغبة بجماليات الحبِّ العرفاني المقدّس لا المُدنّس، وتخليقاته كأسمى أفعال الوجود ببعده الرّوحي التطهري الحلمي العشقي الإلهي القريب إلى الله جمالياً. 
كانت المرأة تتمثّل حضورياً بما نسبته «70 %» في مدونة السّماوي الشعرية، المرأة لديه في تساميها تمثّل المعادل الموضوعي والعضوي الحسّي المهمّ
للوطن:
في قصيدة (جُهر) يذكر السَّماوي: (فأنا الفراتُ/ وأنتِ دجلةُ/ والسريرُ بكوخنا شطُّ العربِ).
يذكر جاد الكريم الجياعي في كتابه «الآيروسية انطباعات وتأملات، (الجنس في الثقافة العربية):
 «اللّغة  قادرة على تسمية أكثر الاشياء انفلاتاً وتلاشياً، أي الأحاسيس، والآيروسية هي الجنس محولاً إلى استعارة، إلى طقس وتمثيل، والمخيّلة هي الوسيط الذي يحرك الفعل الآيروتيكي والشّعري معاً، المخيّلة هي القوة التي تحول الجنس إلى طقس وشعيرة، واللُّغة إلى إيقاع في بلاغة البيان الخطابي الشّعري الأصيل، وعلاقة الآيروسي بالجنس، كعلاقة الشعر باللُّغة.. ومن البديهي أن ينبثق الجمال من هذه الإرادة في الحالين».
يصدر عن السّماوي نفحات عرفانية روحانية بصيغة تألهيّة لا تتجاوز المحظور أو التابو الاجتماعي الشّرعي: (يا جنةَ الله في قلبي ويا قمراً/ من الأُنوثة أدناني من القمرِ/ إنّي عبدتُكِ لكنْ دونَ معصية/ فَلتغفري للفتى ماضيه في
كُفُرِ).
وفي صورة شعرية أُخرى مكتملة الأركان تُمتّع الأنفس الحرّى، وتُدهِشُ الاذهان يقول السّماوي: (يا آيةَ العشقِ لو تدرينَ ما قلقي/ أردى إذا غبتِ عن سمعي وعن نظري/ ويا هَديلكِ لم يعرفْ لنشوتهِ/ سَمعي مَثيلاً سوى تكبيرةِ السحر). 
صورة شعرية تصوفية تتمثّل فيها ذوبات المخلوق في الذات الإلهية عبر قطعة من الغزل الشفيف، ذي الفكرة المُحلِّقة في جدوى الوجود وأُس الإنسان. وفي مكان آخر يذكر السّماوي بذات النسق المعرفي وجنس الشعر بلغته التواصلية بين ما يخطّه القلم وما يصل إلى المتلقّي ضمن دائرة إرسال قوامها الكلمات المحلِّقة في عوالم الخيال الجميل: (جربتُ أن أختارَ غيرَكِ/ قِبلَةً لصلاةِ عِشقي/ فاستدار إليكِ قلبي والمُصلّى).
 في ثنائية ضدية يعمدها بيان رائق مستوفٍ لكمالاته يمضي السّماوي في اقتناص تلك الثنائيات ومداها التأثيري التأثّري في  التقاطةٍ قلمية مبدعة. السّماوي يُدلي بدلوه الجمالي الرّوحي : (فأنا بها المُتهجّدُ ..الضلّيلُ../ والحرُّ المكبّلُ بالهوى القديسِ.. والعبدُ الطليقْ/ وأنا اللهيبُ الباردُ النيرانِ./ والماءُ الذي أمواجه/ تغوي بساتينَ اللّذائذِ بالخريفِ/ فأنجدي حَلّاجكِ المحكوم بالصّلب المؤجّل../ أنجديه عسى أن ينشَّ السعفُ عن صحنِ الفِرات الجوع../ والقنديل في ديجور دجلة يستفيقْ). 
 جهد نقدي كبير بذله الدكتور جبّار ماجد البهادلي مستعرضاً خلاله شعرية الشاعر السّماوي وفق منهج النقد التكاملي الحاف بالتجارب الأدبية شكلاً ومضموناً ورؤىً تَنفتحُ على آفاق التأويل والتفسير والتركيب والاستنباط والهرمنيوطيقا بلغةٍ اعتمدت البساطة في التوصيف والعمق في الكشف والتبنّي لمظاهر وتمُّثلات النقديّة الشعرية
الحديثة.