القداسة والنجاسة

ثقافة 2022/01/31
...

 ناجح المعموري
لاحظ غرانيه في بلاد اليونان أن ما هو مصدر نجاسة وسبب خطر يمكن أن يكون أيضا مادة موجبة للتقديس. وقد كانت عذارى أثينا يقدهن الى الإلهة ارتميس أول فوطة قماش ملطخة بدمهن الحيضي، كما كان يجري تكريس ملابس النسوة اللواتي يقضين في أثناء الولادة لارتميس.. الدم الشهري سبب جوهري للنجاسة ليس في بلاد الإغريق وإنما في العالم كله، لان الجماعات تتعامل معه بوصفه دماً فاسداً وزائداً، هذا فضلا عن أن الكثير من الشعوب تعاملت مع الدم باعتباره حراماً. وأشارت العديد من الدراسات الانثربولوجية الى أن الطمث الأول مناسبة مهمة لدى القبيلة لان الفتاة غادرت مرحلة ودخلت أخرى وهي نجسه وعليها الاعتكاف في مكان معزول حتى تستعيد قداستها. 
 
والرسالة الرمزية المرسلة من قبل جسد الأنثى هي انه تحول من مرحلة العطل الى مرحلة الاكتمال والقدرة على الزواج، ولحظة الطمث الأولى هي عتبة اكتشاف بالنسبة للأنثى تخضع فيها لطقوس خاصة داخل الأسرة/ والجماعة/ أو العزلة، وهذا ما تضمنته الدراسات الانثربولوجية التي تضمنها كتاب تطور الثقافة، بحيث تكون النجاسة عامة، وتشمل القرية، لذا تقوم بمراقبتها من لحظة الاعتكاف حتى التطهر، وعودتها للمحيط الاجتماعي. 
سيلان الدم للمرة الأولى يضع الفتاة أمام مسؤوليات اجتماعية ودينية جديدة وتجعل منها عنصراً معلناً عن استعداده لدخول عتبة جديدة، لان الدورة الأولى وما بعدها، تشترط الإعلان ـ حسب عقائد كثيرة من الشعوب والقبائل. وينطوي الإعلان كما أرى على شيء من التباهي والاعتزاز بالفتاة الجاهزة للتخصيب أو مثل هذا الدور يضع على عاتقها مسؤولية جسيمة. وما ذكره روجيه كايوا عن عذارى أثينا يعني تعميم الحدث الجديد والمفاجئ والسعي لنشره على نطاق واسع. أظن بأن الصلة بين الفتاة الطامث والإلهة ارتميس عميقة جداً. لان الفتاة دخلت عتبة تحولت فيها من معطلة الى مستعدة لإنتاج الخصب وثانياً إشعار ارتميس  كي تعرف ازدياد العدد الخاص بالفتيات المؤهلات للزواج كجزء من وظيفة ارتميس  وعلاقتها بتجدد الحياة وان كانت هي معطلة، وتعطلها لا يشير الى كونها معطلة للزواجات، بل هي على العكس تحتفي بالمتزوجة وتسعى لحمايتها مع خصبها لحظة الولادة.
كم من فتيات أثينا يقدمن علاقة الطمث الأول لارتميس؟ حتماً العدد كبير وحشد الفتيات هن من المؤمنات بالإلهة، والمتصلات بها ثقافياً وروحياً، وكان هذا المعتقد يُمهَّدُ لارتباط مستقبلي بالإلهة، بعد زواجهن وتخصيبهن، إذ يأتي دور ارتميس بالتوليد ويكشف هذا المعتقد عن المركز الديني الذي تتمتع به الإلهة وعدد العبادات لها، واجد بأن ثنائية الحياة / والموت هي ذات الحضور الواسع بالعلاقة بين الفتيات والنساء وارتميس، ويتضح ذلك عبر ممارستين؛ اولاهما، الفوطة الملطخة بدم الدورة الاولى وتقديمها لارتميس، وثانيتهما، تكريس ملابس النسوة اللواتي يقضين في أثناء الولادة لارتميس أيضا. الملاحظة في العقائد الدينية المرتبطة بارتميس وحّدت بين الحياة والموت وهما من الوظائف المباشرة وغير المباشرة للإلهة. الفوطة الملطخة بالدم، علامة على استعداد الجسد للممارسة الجنسانية المفضية للولادة أو الموت إذ تقدم ملابس النسوة الميتات وتكرس لارتميس. السؤال المتبادر للذهن لماذا ملابس المتوفاة تكرس لارتميس؟ وتكتفي بمعاينة الفوطة الملطخة بدم الطامث لأول مرة.
تعني المرأة الحامل المتوفاة أثناء المخاض قرباناً مقدماً للإلهة، ما دامت ارتميس تقبل التقدمات البشرية، وتكريس الملابس الملطخة، بالدم حتماً هو القبول الطوعي من الإلهة، وتتعامل الجماعة مع المرأة المتوفاة تعاملاً مختلفاً بحيث ستكون الأسرة أو الزوج على قناعة بأن المتوفاة اختارت أن تكون قرباناً للآلهة الأم/ ارتميس، وحتماً لهذا انعكاس كبير على الإلهة في بلاد الإغريق ووسط مجلس الإلهة لان ارتميس واحدة من الإلوهات المذكرة والمؤنثة الثانية عشرة، المشكلة لبانثيون الاولمب، من هنا يتكون تميز ارتميس بين العديد من الإلوهات الاغريقيات وتفردها بنظام ثقافي/ وديني، حافظت عليه وتمركزت حوله.
وفوطة الحيض وسيلة ضمن حالة طقسية، نستطع الاستفادة من رأي لروجيه كايوا وتطويره بما يخدم في تأويل هذه الواقعة. قال كايوا بأن المحظور موجود في الرجاسة، تحديداً ولها وجه مزدوج، مكون من قوة فاعلة وطاقة مؤذية. القوة الفاعلة الايجابية متأتية من عتبة جديدة للجسد، دخلت فيها الفتاة مرحلة تغيرت فيها وظائف الجسد وتطورت ولم يعد مثلما كان سابقاً، بل هو بعد الطمث مهيأ وحاضر تماماً للجنسانية حيث تتبلور قوته الفاعلة المؤثرة حتماً في الحياة ونظام الكون، فالثنائية لها حضورٌ ايجابي أكدت عليها الأنظمة والفلسفات الشرقية، وظل اليان واليانغ جوهر ما يحصل بالحياة والعالم، وهما الحافظان للتوازن الكوني، كذلك يسهمان بإبراز الوظائف الجنسانية وتتمثل الطاقة المؤذية بما ينطوي عليه الدم من حرارة، يمكن تحولها الى شرارة حارقة لذا أشار كايوا الى إبعاد الجنسين عن كل شيء. خوفاً من الاشتعال والحريق.
تنطوي الثنائية التي تحدثنا عنها على الجنس، بشكل صريح أو مسكوت عنه، بمعنى تفضي هذه العقائد الخاصة بالدم، دم الطمث ودم الولادة الى مفهوم الجنس المرتبط وثيقاً بالمقدس كما قال فرويد، لان الفوطة والملابس المكرسة تعبير عن معتقد يجري التقيد به وتنفيذه بدقة والعقائد والطقوس مكونات دينية معروفة «لما كانت الجنسانية ترعى عملية الانجاب والتكاثر، فقد اقتضى ربطها بطقوس الخصب حكماً، ومن بعدها، بطقوس البلوغ والتنشئة، هذه الأخيرة تحوّل الفتيات والفتيان الذين تنوي ضمهم شرعاً الى الجماعة الفاعلة والمسؤولة، الى بالغين مكتملين وأشداء.. أن دماء الحيض وفض البكارة والولادة تسهم اسهاماً شديداً في إبقاء المرأة كائناً ضعيفاً، جريحاً، نجساً، وشريراً، ينتمي بطبيعته الى المقدس «الملتبس» الذي يفترض أن يخشى، في بعض الحالات، حضوره أو الاحتكاك به، وهذه الخشية هي من أساس عدد من الأوامر والنواهي الدينية المتعلقة بالطهارة والرجاسة. 
لا تخلو الثنائية التي اشرنا لها من السمة الجنسية لان ما حصل فيهما ـ فوطة الطمث وملابس المرأة المتوفاة ـ لها حضور جنسي كما قلت، فالطمث الأول نداء الجسد للجماعات حول اكتماله. ونضجه واستعداده لتلقي النداء الآخر وهو جنسي بمعنى أن الأنوثة صوت طالب للذكورة والشهادة على ضرورة ذلك هو تحقق الطمث.
إذن لا تبتعد الثنائية عن «الجنس» الذي ابتعدت عنه ارتميس  وصانت جسدها وعذريتها من الآخر واكتفت بوجود وظائف لها مرتبطة مباشرة بالجنسية، لأنها إلهة أم ولا بد أن تكون للام وظائف جنسية، لان المحافظة على جوهر الجسد الارتميسي، لا تعني القطعية بل منح وظائف الجسد ومن أهم تلك الوظائف الجنسية، ومن معطياتها النداء الجسدي للآخر. والولادة بمظهر للآخر من أكثر سمات الحياة الإنسانية جوهرية، الجنسية ذلك الأمر الأكثر طبيعية فنياً، هي على حد تعبير ميشيل فوكو «حقيقة وجودنا» ومن ناحية أخرى، فقد تخثر بقوة مع الأساطير التاريخية والمحرمات المتخندقة، بمعان متميزة ثقافياً، إن الجنسية تبدو وكأنها نتاج التاريخ والعقل أكثر من نتاج
الجسد.