جوهر التعبير الصامت

ثقافة 2022/02/02
...

 قيس عمر
البانتومايم مصطلح يشير للمسرحية المؤداة بالتمثيل الصامت، وهذا المصطلح يستخدم عموماً للإحالة إلى رواية قصة أو حدث من دون استخدام الكلمات. إنه فعل الجسد للكشف عن فكرة ما، ويذهب إبراهيم حمادة في معجم المصطلحات الدرامية إلى أن البانتومايم هو «التمثيل الايمائي».
 
 وإذا كان البانتومايم هو نص صامت، فما هي قيمة الصمت وجوهر اشتغاله أمام المتلقي؟، من هذا السؤال نعلم أن على الحوار الصامت، أن يقيم حواراً خاصاً به، فهو لا يقل شأناً عن الحوار الخارجي والداخلي، فالبانتومايم هو حوار لكنه، يعتمد تقنية أخرى بدلاً من الكلمات الصائتة، فهو حوار لا يستخدم الكلمات المنطوقة إلّا نادراً، ويعوض عن الحوار المنطوق/ الصائت بلغة أخرى هي لغة الجسد، أيّ الحركة المصحوبة بالايماءة والموسيقا، التي تصاحب هذا النوع من العروض، ويتشكل هذا الضرب من الحوار، عبر توظيف تقنيات عدة هي، حركة الجسد، والايماءة، والموسيقى، وهذه العناصر الثلاثة تؤدي في النهاية مجتمعة حواراً من نوع خاص يقول عنه ستانسلافسكي في ذلك: «إن الحركات في مسرح البانتومايم هي الحياة.. ومصدر هذه الحركات هو الجسد». 
فنحن أمام حوار خاص، ونوعي، ومغاير، يتركب من ثلاثة تقنيات، لكن ماهي الغاية من إقامة هذا النوع من الحوار، ليصل إلى المتلقي فالحوار الصامت في مسرحيات البانتومايم «يمتاز بكونيته وعدم محدوديته، في حين أنه في المسرح الصائت يتميز بمحدوديته». 
هذا الانفتاح الكوني للصمت يجعل من السهل، تقديم حمولات كونية، عابرة للجغرافيا، واللغات، والأزمان، وذلك بسبب من الطبيعة الصورية، المقترنة بحركات الجسد، بوصفه حقلاً صورياً صائتاً بالمعنى المجازي، وقابلاً للفهم وتحقيق ضرب من التلقي الفعال.
فالعرض المسرحي الصامت هو حوار كوني، يستمد وجوده من لغة، مركبة من عوامل متنوعة وكثيرة، فهو لا يعتمد على لغة معينة لجنس معين، بل هو خطاب يتوجه إلى الجميع لاعتماده على لغة الحركة والايماءة، التي يجسدها الفعل الحركي/ الصوري. وهذه الحركات هي مشترك إنساني بين الجميع. فالحوار الصامت هو حوار يتاخم أرواح الجميع على حد سواء، وهذا يشير إلى «الحركة التي سبقت الكلمة، والايماءة التي سبقت الإلقاء، والحركة والايماءة مع ما فيهما من تعبير هما لبّ فن المايم أو التمثيل الصامت». 
إن متلقي البانتومايم يجد نفسه أمام حوار ذي مسارات أعمق وأرحب، وحدوده المعرفية تمتد، لتشكل خطاباً كونياً يتجاور حوله الجميع، عابراً بذلك حدود الراهن ومحدوديته، ونلاحظ أن أغلب النصوص والعروض التي قدمت بطريقة البانتومايم قد «اشتغلت على تاريخ البشرية أو تاريخ الخليقة. فجعلتها مادة أساسية وموضوعة أثيرة. بسبب خزنها لطاقات درامية قد لا تحتاج إلى كبير جهد لتحريرها وتحويلها إلى جنس درامي إبداعي صامت». وهذا هو عين ما اشتغل عليه ناهض الرمضاني في مسرحية (هـوو) من وجهة نظر (شاكر الأنباري) «وإن تشابهت موضوعتها مع بعض النصوص مثل (حدث منذ الأزل) و(قبل الطوفان)، إلّا أنها اختلفت عنها بما يضمن تفردها وتميزها الواضحين». 
في هذه المسرحية نجد عمق الاكتشاف المعرفي الذي يختزل مراحل العقل البشري من حيث تراتبية منطق الأشياء، فمسرحية (هوو) تقدم الإنسان وهو يمر بتحولات معرفية وسلوكية هائلة، كذلك تقدم رحلة السلطة البشرية وهي تنمو وتستطير، وتستحوذ على الإنسان وممكناته الوجدانية والإبداعية، فهذا العرض يحاول بجدية كبيرة، تقديم الإنسان في كل زمان ومكان عبر لغة الصمت، المصحوب بتقنيات تعبيرية، تتآزر وتتخادم على مستوى الصورة الدرامية، فحركة الجسد، وصورة الإيماءة التعبيرية، والصوت الموسيقي، تتآزر جميعاً لتقدم لنا حقولاً من الصمت المعبر عن رحلة الإنسان، فالتعبير الصامت، يتحول إلى لغة تتمتع بقدرة هائلة، على الإيصال البلاغي للمتلقي، فدلالة التعبير الصامت على مستوى التلقي البصري، أبلغ من التلقي الملفوظ، فالصمت المصحوب بالتعبير الحركي، يقدم لنا صورة أعمق، ويترك أثراً أمضى في المتلقي، عبر تلازمه واعتماده على لغة تكسر جليد التلقي السلبي. إن هذا التلازم الحاصل بين الإشارات التي تطلقها الشخصية (هوو) واقترانها بشكل الوجه، وحركة الجسد يجعل من مفردة وصوت (هوو) حقلاً إشاريا بالغ الأهمية والوضوح، فالصوت (هوو) يخرج من عمق الإنسان/ الشخصية، ليفتح النص على تأويلات كثيرة ومتنوعة، فالإرشادات الكتابية التي وضعها المؤلف تعمل كموجه قرائي للنص، وموجه إخراجي على المستوى الفني لعملية التلقي، فالارشادات الكتابية/ الفنية تحيل الصوت لتمثلات الشخصية لحالات، وانتقالات، وتعبيرات، نفسية يمكن تشخيصها والإمساك بدلالتها على مستوى التلقي النصي/ الفني، فالنص يستهل بملاحظة إرشادية وضعت بين قوسين «هوو صوت يطلقه البطل للتعبير عن حالات مختلفة سيمر بها أثناء العرض خوف، سعادة، دهشة..الخ. ومن الممكن أن تكون الكلمة موو. أو، وو». 
فالصوت (هوو) يعبر عن احتمالات عديدة، فهي المفردة الوحيدة التي يعبر بها  الشخصية (هوو) الذي يرى الحياة أكثر معرفية وهو لا يملك إلّا أن يعبر بـ (هوو) هذا الصوت المتحشرج يحتشد بكم دلالي هائل، يحيل  للتطور الحضاري، والعلمي، والنكوصات، التي مرت بها قاطرة البشرية، فطبيعة التلوين الصوتي للشخصية، يمكن أن تنهض بحمولات معرفية مكثفة، تحيل للنقد، والمراجعة، والقبول، والرفض، والاحتجاج. إن طبيعة التعبير الصوتي، تحمل معها ايقاعها النفسي، وموقفها من بعض التحولات، التي رافقت رحلة الإنسان.
وإذا كان لا بد من ربط هذا العرض، بالسؤال الجوهري في بداية هذا المقال، والمتعلق بقيمة الصمت وجوهر اشتغاله في النص/ العرض، فإن قيمة الصمت بوصفه تعبيراً غير صائت غالباً، أو تعبيراً حركياً يعتمد على الصورة المقترنة، بالايماءة والصوت الموسيقي، ولعل الجواب عن هذه القيمة، التي تحدد جوهر اشتغال الصمت، على مستوى التلقي، تتحدد من كون الصمت بوصفه تعبيراً، على المستوى الفني، إلى كونه حياة اختارت، أن تتمظهر بشكل مفارق ومختلف أمام المتلقي، فقيمة الصمت تعبيراً، تكمن في اختراقه لحدود الزمن، وحدود الهوية والمكان، فالصمت يتوغل عميقاً؛ ليصل للجميع متجاوزاً بهذا، حدود الراهن وصعوبة عملية التلقي النصي/ الفني، إن التعبير الصامت، هو جوهر البلوغ ومنتهاه، بعد أن صار متخلصاً من عوائق الاتصال الخطي، فهو بهذا المعنى فعل اتصالي، يتمتع ببلاغة خاصة، تجعله منعتقًا من حدود اللغات ومواضعات التلقي الجاهزة.