مشتركات كثيرة.. لكنْ

ثقافة 2022/02/02
...

  طالب عبد العزيز    
 
  لا أجدُ بين فئة اللاهوتيين أقربَ إلى الشعراء والكتاب والفنانين أكثر من المتصوفة، فحياتهم وسلوكهم العام يشبه إلى حد ما حياة وسلوك هؤلاء، مع الفارق بين التوجهين، والنظرة إلى الحياة بوصفها حيّزاً مقتطعاً، غير قابل للاستمرار، لكنَّ المشتركات كثيرة بينهم، فالزهد واعتزال الناس والاشتغال بالمطلق والتطرف في النظرة الى ما هو كائن وسيكون وغيرها الكثير تجمعهم جميعاً، حتى لأجدني حائراً في ما ذهب اليه مولانا جلال الدين الرومي، الذي كان يحرص على أنْ يظلَّ متخفياً عن الناس، يوم ارتضى بتلك الحجيرة الصغيرة، التي اعتاد الناسُ قضاءَ حاجاتهم عند بابها، فكان يخرج في الصباح الباكر، وينظّفُ ويمسحُ النجاسات والأوساخ، التي يخلّفها السكارى والثمالى، امام الباب، من دون نطق كلمة. لكنَّ الناس فجأةً سمعوا شيئاً ما، فأحنوا رؤوسهم تعبيراً عن الاعتذار، لكنه كان يقول لهم: «كلا، كلا لو كنت وليّاً هل كنتُ لأسكنَ هنا؟».  
  من بين عشرات الأئمة في المدينة كان أبي يختارُ واحداً يصلي المغربَ خلفه، في رمضان، هو يقول بأنَّ شيخه كان يضع رغيفاً في جبّته، وهو يؤمُ الناس، لكنه، لا يأكلُ منه إلا نادراً، وحين سألته عنه أجاب: «آكلُ منه إذا كنت جائعاً» لكنني، لم أره يأكل. ومع إقرار الناس له بالسلوك التعبّدي النادر، والاخلاص المطلق لمعبوده، إلا أنه ظلَّ مصرّاً على نفي العلاقة تلك، مفضّلاً إبقاء نفسه خارج إطارها الخاص. كان مولانا الرومي يذهب الى بائع رؤوس الضأن ويأكل الخبز والحساء، لكنَّ الجزّار تتبع أثره، ولما عرفه أمر صانعه أن يقدِّم له الجزءَ الجيّدَ والأنفعَ من الذبيحة، فلم يعد يذهب اليه، ورحل. هناك، من يزيده الإهمال تألقاً، ويزيده النكران وضوحاً، ويسلِمه الظلامُ الى النور، أنّى جلسَ وتوارى.     
 نعرف أنَّ كلَّ صنعةٍ تحملُ أسرارها، لكنَّ صنعة الكتابة تملك من النوادر والطرائف أجملها وأغربها، وبما يذكرنا بهؤلاء، إذ، تُطْلعنا كتبُ السيّر والمدونات الشخصية لكبار الكتاب والشعراء على سلوكيات كثيرة، قارب بعضُها الهوسَ والجنونَ، ونال البعضُ الآخرُ التفكَّهَ والتندّرَ من القريبين منهم، وبعيداً عن تفاحة أودن المتعفنة، ورجل ليوباردي التي يربطها بالسرير أثناء الكتابة، فقد كان فلوبير يكتب وهو يدير ظهره للنافذة، لأنه يرفض أيَّ منظر قد يشتتُ تركيزه، لكنّ بروست كان أغربهم، فهو يكتب في السرير، وفي غرفة مغلقة، ويرفضُ رائحة العطر، حتى أنَّ خادمته كانت تشمُّ كلَّ من يهمُّ بزيارته.
 وإذا كان نزار قباني يكتب قصائده على الورق الأزرق، وماركيز يكتب والورد الأصفر على طاولته، هو الذي كتب روايته الأولى (الأوراق الذابلة) في منزل لعاملات الجنس، وأمضى سنواتٍ طويلةً، في التفكير بروايته (مئة عام من العزلة) فلهنري ميللر قصة أخرى، فهو لا يستطيع الكتابة في مكان مريح، إنما كان يفضّل العمل في غرفة ضيقة، وعلى طاولة صغيرة.. ذلك أنَّ الفضاء المريح لا يُسعفه على
العمل. 
أما غيوم أبولينير فقد كان يكتب في المطبخ، وكان بلزاك يكتب في الليل، مرتدياً سترة قصيرة بيضاء من الكشمير، ولعل خوان غويتسوللو الأقرب إلى العقل منهم جميعاً، فقد كان يكتب بيده، وبالقلم الرصاص، وفي مكان إقامته، ولم يستعمل الآلة الكاتبة أو الحاسوب. لعله لا يشبه ذاك الصوفي الذي وقف بمدرعة من الخزِّ، على باب دار، في بغداد، ذات يوم قائض، شديد الحرارة، يسأل امرأةً جميلةً شربةَ ماءٍ، فتجيبه:» صوفيٌّ ويشربُ الماءَ في الصيف؟». 
هل أبيح لنفسي أن أقول: اِشترِ حصاناً، لكن لا تذهبْ. في إزميل النقّاش عينٌ لا يُبصرها أحد. في الخشب روحٌ تنمو بالخدش والقشط. السهمُ الذي أخطأ الرجلَ ثلم الحجر، ألا فلْنبكِ الرَّخام معاً، سعادةُ مطرقةِ باِب البيتِ في انتباهةِ أهله. اِنهضْ، وسرّْ، أياً من عظامِك ليستْ
مكسورة.