دوريس ليسينغ الحسُّ الفرديُّ المتميِّز

ثقافة 2022/02/02
...

  هدية حسين
في كتابه (الدخول الى عالم دوريس ليسينغ) يقول عنها الروائي الراحل إلياس فركوح (ليس هناك حياة تستحق أن تعاش وأن تكتب في الوقت نفسه مثل حياة دوريس ليسينغ، إنها المرأة التي قبضت على مصيرها بيدها بوعي وإدراك، حاذقة من قاموس حياتها ذاك القدر الإغريقي المتسم به عديد مصائر حيواتنا المستسلمة لشروط واقعنا).
 
ولدت دوريس ليسينغ (1919- 2013) في إيران وترعرعت في روديسيا الجنوبية ثم آثرت الرحيل عنها ولم تكمل تعليمها، كانت في الثالثة عشرة عندما تركت المدرسة، لكنها علّمت نفسها بنفسها لتستمر في الكتابة، عمرها المديد جعلها تعاصر أحداثاً جساماً أهمها هتلر والنازية، والحربين العالميتين، والتفرقة العنصرية، وسطوع نجم الشيوعية، لم تكتفِ بالكتابة على الورق وإنما ناضلت ضد التمييز العنصري وضد الحروب بكل أشكالها ودافعت بشدة عن حقوق المرأة، وهي الحكاءة التي لا تنضب حكاياتها، حصلت على جائزة نوبل سنة 2007، ومن أهم أعمالها: مذكرات من نجا، العشب يغني، المدينة ذات البوابات الأربع، المفكرة الذهبية وهو كتاب ذو استبصارات صوفية، ورواية الطفل الخامس التي نحن بصددها في هذه المقالة، وعموماً فإنها تشتغل في أغلب أعمالها على الذاكرة وبهذا أسست لحسِّها الفردي المتميز.
ترصد دوريس ليسينغ في هذه الرواية حياة زوجين سعيدين هما دافيد، وهارييت، ربط بينهما الحب وتشابه الظروف، كلاهما عانا من انفصال الأبوين، ولهما تطلعات بتأسيس حياة زوجية راسخة، وأفكار متوافقة، وقد اتفقا أن ينجبا ستة أو ثمانية أطفال، ومن أجل ذلك امتلكا بيتاً يسع أعداداً كبيرة تناسب خططهما ويتسع لاجتماع أكبر عدد من الأهل والأصدقاء في المناسبات، يبدو موضوع الرواية بسيطاً وهو يتتبع مسيرة ومفردات الحياة بين الزوجين والأقارب، وبمرور الوقت تلد هارييت طفلها الأول، والثاني، والثالث، والرابع، ثم الخامس، وكان الزوجان محط انتقاد من الأهل في ما يتعلق بإنجاب المزيد من الأطفال لكن الزوجين السعيدين لن يلتفتا لتلك الانتقادات على الرغم من أن إنجاب الأولاد لم يصاحبه تحسن مادي، فكان جيمس أبو دافيد يساعده مادياً، ودوروثي أم هارييت تساعد في تربية الأطفال، لكن ولادة الطفل الخامس ستغير حياة الزوجين تغيراً جذرياً نحو الأسوأ، فما هي حكاية الطفل الخامس؟.
ترصد دوريس ليسينغ من خلال هذه الأسرة مفردات الحياة التي بدأت بالحب والتماسك ورفقة الأهل والأصدقاء، وواكبت تحولاتها النفسية وتركيبتها الصعبة بعد أن حدث ما لم يكن بالحسبان حين ولد الطفل الخامس الذي لا يشبه الولادات التي سبقته، رصد يوحي قبل الولادة ما ينبئ بالكارثة، وذلك من خلال بعض الإشارات، إذ كان الجنين بأسبوعه الثاني ينقر بشدة على بطن أمه كما لو أنه يريد الخروج، لقد عاشت هارييت وضعاً نفسياً صعباً خصوصاً بعد أن جرى الفحص وتبين أن الجنين أكبر من الحجم المعتاد، ومرت الأشهر الصعبة حتى ولدت طفلاً ضخماً بعينين صفراوين ورأس منزلق الى الخلف، كأنه مخلوق خرافي أو غول كان يسكن الكهوف، أثار الرعب في نفس كل من رآه، وكان شرهاً للحليب يُحدث ألماً كلما أرضعته أمه، ويتحول وجهه عند الغضب الى الأبيض المصفر، ثم ما هي إلا أيام قليلة حتى كان صراخه يهز جدران البيت ويخيف إخوته الصغار ويطلب المزيد من الحليب، لم تعد الحياة مع هذا الطفل سهلة، فمع مجيء (بن) وهذا هو اسمه، حدثت أمور سيئة للأسرة، ومنها أن الشركة التي يعمل فيها دافيد تعرضت لعجز مالي كبير وأثر ذلك على مردودات دافيد، كما أن البلدة التي يعيش فيها الزوجان أصبحت مسرحاً للأحداث الوحشية والجرائم وغزتها عصابات السطو المسلح، ولم يعد التنزه ليلاً بمأمن عن تلك
العصابات.
تتصاعد وتيرة الأحداث في هذه الرواية، فيصبح البيت الهادئ فوضى طيلة ساعات النهار والليل أيضاً فتبدأ العلاقة بين الزوجين تفتر، خصوصاً بعد ابتعاد الأصدقاء عنهما بسبب ما يقوم به بن، لقد قتل كلب أحد الضيوف بتمزيقه إرباً، ثم بعد أيام قتل قطة، مما أرعب الضيوف والأهل فكف الجميع عن الزيارات، وضاعف من عذابات هارييت نظرات الإدانة بولادة هذا الطفل الشرير الذي يلوي القضبان ويكسرها إذا ما حبسته أمه في الغرفة، لم يتحمل دافيد أية مسؤولية تجاه بن، صار ينأى بنفسه طيلة ساعات النهار، وأحياناً ينام عند أحد الأصدقاء، وهكذا خفت الحب بين الزوجين
وتلاشى.
 اشتغلت دوريس ليسينغ على معاناة هارييت التي رفضت فكرة إيداع بن في المصحة، لكنها اضطرت لذلك بعد مقتل الكلب والقطة، وهكذا أودع الطفل الشرير في مصحة بعيدة لا تعرف هارييت عنها شيئاً، فهل عادت العلاقة بينها وبين زوجها الى ما كانت عليه؟ من الصعب إعادة الأمور الى مجراها، لقد انكسر شيء ما في داخل كل منهما، فدافيد لا يكف عن لوم هارييت حتى بعد أن ابتعد بن عن البيت، ذلك أن تكلفة المصحة وقعت عليه وأسهم أبوه وبعض الأقارب فيها، لقد فقدا طعم تلك الأيام والملامسات الحميمة على الرغم من أن هارييت فعلت ما يمكنها فعله بهذا الشأن، كانت كل الأمور تذهب باتجاه الطفل الخامس وشروره.
هناك رصد أيضاً للمصحة التي بنيت في منطقة نائية ولا يعرف أحد ما يدور للأطفال فيها إلا بعد أن دفعت غريزة الأمومة هارييت للذهاب وتأكدت أن بن لو بقي في المصحة سيموت حتماً، ففعلت المستحيل لكي تسترد طفلها، وهكذا رجع بن شبه ميت، ولما استرد صحته استيقظت شروره مرة أخرى، ستتشتت الأسرة بمرور الوقت، ويكبر بن ليصبح أحد أفراد عصابات السطو، أما بيت الأسرة التي كانت سعيدة فيصبح ملجأً لأفراد العصابة لفترة طويلة، ولم يعد في قاموس الزوجين أي مكان للحب الذي كان بل هوة لم يستطع الزمن ردمها خصوصاً وأن هارييت نسيت كونها زوجة وأماً لأربعة أطفال
آخرين.