المتتبع لمسار التغيير الذي استطاع (وما زال) قلب أنظمة الدول في الشرق الأوسط، يلحظ، أزمة (الاتجاه) لبوصلة التغيير. ففي الوقت الذي تبدو فيه البوصلة واضحة الاتجاه أثناء التغيير إذ تتجه صوب الديمقراطية والعدالة والحقوق المدنية،.. إلاّ أنه سرعان ما يُكتشف بعد سقوط الأنظمة المستهدفة أنها بوصلة حائرة خائرة لا قبلة واضحة لها ويسودها العمى أو التذبذب.
بعد إسقاط الأنظمة المستبدة التمييزية اللا عادلة، غدا كل شيء أزمة: هوية الدولة أزمة، شكل نظامها السياسي، قضايا الحريات والمدنية والتنمية وعلاقة الدين بالدولة.. أزمات، وفي عمق الأزمة تأتي قضايا المواطنة والتعايش والتعددية كأسس قادرة على احتواء تناقض الهويات المجتمعية العرقية الدينية الطائفية داخل أمّة الدولة. وهنا تُطرح اسئلة جوهرية عن طبيعة التغيير واتجاهاته ومآلاته، وهل باستطاعة هذه المجتمعات وقواها إعادة إنتاج دولها بسلام ووحدة ومدنية، أم أنّ بوصلة التغيير ستقود الى تشظيات وطنية وحروب كراهية وموجات عنف وإرهاب لا تعرف حدا؟ .
لا أناقش هنا ضرورة التغيير أو حتميته، فهو قائم وسيقوم بسبب طبيعة الأنظمة الطاغية التي أفشلت مشروع الدولة، بل النقاش يدور حول اتجاهات بوصلة التغيير،.. فقد سبق أن انهارت أنظمة بدءاً بنظام الاستبداد الصدامي في 2003م ومروراً بأنظمة الدول في تونس ومصر وليبيا..الخ، لكن ما زالت هذه الدول تعيش إرهاصات بناء الدولة ببوصلة حائرة خائرة!! إنها أزمات وجودية مصيرية تشهدها أمم الشرق الأوسط تتلخص بأزمة تحديد بوصلة البناء لصرح الدولة المؤملة بعد موت الدولة التقليدية الفاشلة. لقد كشف التغيير عن الفراغ والعمى والعجز على مستوى تحديد بوصلة إعادة بناء الدولة، وكشف في الوقت ذاته عن انقسامات مجتمعية عميقة، وعن تواضع الوعي والالتزام لدى القوى البديلة، وكشف عن الاستيطان المريع للذاكرة والخصوصيات والتناشز في الوعي العام، وسط توظيف أجنداتي تآمري إقليمي دولي عقّد التغيير وصعّب انسيابيته ومآلاته. هذه هي حقيقة الأزمة، وفي عمقها أزمة بوصلة مجتمعية ونخبوية حائرة أو خائرة في تحديد مسارات إعادة بناء الدولة الميتة أو المحتضرة.
أكبر خطيئة كشفها التغيير بدول الشرق الأوسط هي خطيئة عدم التأهيل المجتمعي السياسي الحضاري لأممها، والسبب، هو النخب العامة للمجتمع على تنوعها وفي طليعتها النخب الحاكمة التي مارست الحكم بعقلية الاحتكار القومي الطائفي الحزبي النخبوي الشخصوي للسلطة والثروة ولكل مكامن الدولة وتعابير وجودها،.. لقد أعدمت هذه الأنظمة السلطوية أي حراك تطوري سياسي مجتمعي ثقافي داخل بنية هذه المجتمعات فحالت دون تأهيلها، فمجتمعاتنا تعرف ما تريد على مستوى التّطلع لكنها تفتقد مؤهلات الوصول إلى الأهداف.
على قوى التغيير في هذه الدولة أو تلك وبروح المسؤولية والتضامن والالتزام الوطني أن تحدد، أولاً، الاتجاه الحاسم لبوصلة البناء الوطني المدني دونما ضبابية أو تردد، وثانياً، أن تشكّل نواة حكم فعّال قادر على الإدارة بكفاءة، وثالثاً، أن تحمل الواقع على سكّة الدولة بقوة القانون والإلزام، ورابعاً، أن تلحظ بُعد التأهيل التدريجي وهي تمارس مهام إعادة بناء مجتمعاتها ودولها سواء بطبيعة النظام السياسي المعتمد أو بمجمل المراحل التحوّلية للدولة وصولاً لأهدافها،.. وإلاّ ستبقى بوصلة التغيير حائرة أو خائرة.