إرهاب التلقي

ثقافة 2022/02/05
...

 أحمد الشطري
لم يكن تذوق الأدب يوما متاحا للجميع، سواء بأسلوب تقديمه أو بماهية خطابه؛ لأنه حاجة فكرية وروحية وليست حاجة جسدية، ومع ذلك فإن الحاجة الجسدية هي أيضا خاضعة لإرادة الذوق؛ ولذلك تختلف مكونات الأغذية الجسدية وأشكالها (الأطعمة ومشابهها على سبيل المثال) من مجتمع لآخر، ومن باب أولى أن تختلف مكونات أغذية الروح والفكر من فئة وأخرى 
ومجتمع وآخر أيضا.
 
ومن التعسف أن نتهم من لا يتذوق بعض الأطعمة مثلا بقلة الذوق، أو أن نصف من يتذوق نوعا من الأطعمة بالرقي أو الانحطاط الذوقي، وكذلك الأدب وغيره من الغذاء الفكري له متذوقوه، وله من يجد فيه حاجة ضرورية لإدامة حياة عقله وروحه، مع اختلاف نوعية تلك الحاجة وطبيعة الاحتياج. على أن حديثي هنا منحصر في الأدب ومتلقيه، من دون سواه من العلوم والثقافة الأخرى؛ لكي لا يتشعب الحديث وتتعد الفرضيات. 
إن موضوعة التلقي غالبا ما تقع تحت تأثير الذائقة، وهذه بدورها تخضع لمؤثرات متعددة ترتبط بالوعي والزمن والظروف بمختلف أشكالها، ناهيك عن المؤثرات الإيديولوجية والنفسية المرتبطة بالمتلقي.  
وعلى سبيل المثال نجد في سبعينات القرن المنصرم وما بعدها شاع نوع من الأدب يميل إلى الغموض في تقديم خطابه، واتهم من استهجنه بأنه جاهل أو غير حداثوي، وهي تهمة أوجدت نوعا من الإرهاب، وربما تكون أولى طرق ما يمكن أن نطلق عليه بـ (إرهاب التلقي)، وتناغما مع ذلك شاع استخدام مصطلح (النخبوية والشعبوية)، وهي مفارقة أوجدها الذين اتخذوا من الغموض سبيلا لتقديم نتاجهم، وهو نتاج في غالبه فقير جماليا مبنىً ومحتوىً إن لم يكن فارغا، مما اضطر الكثير ممن يخشون تبعات تلك التهمة (الإرهابية) للتعامل معه على أنّه نوع من الأدب السامي، ينطوي على معان عميقة مخفية، لا يصل إليها إلا حداثويو الفكر والذائقة، وهو حكم تعسفي بطبيعته، ويمكن أن نعد الصراع الإقصائي بين دعاة قصيدة العمود ودعاة القصيدة الحديثة (التفعيلية والنثرية) نوعا من أنواع (إرهاب التلقي)، ولم ينته ذلك (الإرهاب) بل بقي فاعلا ومؤثراً ليس مع ما سمي بـ (الأدب النخبوي) فحسب، بل أصبح بفعل وسائل التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا والمواقع الافتراضية يشمل ذلك (الأدب الهابط) الذي يقدمه الذين لا يجيدون كتابة أسمائهم.
  وأجد من الضرورة أن نشير إلى أننا لا نقصد بالأدب الغامض ذلك الأدب المنطوي على توظيفات رمزية، تحتاج إلى معرفة وإحاطة بما اتخذته من رموز أو أقنعة للتعبير عن متبنياتها الفكرية والإبداعية، فمثل هذا النوع من الأدب ليس محصورا بزمن، ولا بنوع من الإبداع الفني، لكنه يحتاج إلى فهم خاص لرموزه ومصطلحاته، قد يتطلب جهدا ومثابرة في البحث عن مفاتيح للولوج إلى دواخله الثمينة في معانيها، بيد أنه لا يتخلى عن ظاهره الجمالي الذي يمكّن القارئ العادي من الاستمتاع به، وخير مثال على ذلك ما عرف بالأدب الصوفي، وهو أدب له خصوصيات خطابه المبطّن الذي ينضوي تحت رموز ذات دلالات معروفة لدى تلك الفئة من الناس، بيد أن ظاهره يحمل من الجماليات ما يجذب القارئ بمختلف مستوياته الثقافية.   
و(إرهاب التلقي) قد لا يكون مفروضاً من شخص أو فئة، بل قد يتولد عن إحساس ينبعث من داخل ذات المتلقي، ومثل هذا ما واجهني ذات يوم وأنا في الصف الخامس الابتدائي عندما اصطحبنا معلم اللغة العربية إلى المكتبة العامة، ولأني كنت متعلقا منذ طفولتي بالشعر بحثت في (درج الأدب) عن كتاب أقرؤه فوجدت (كتاب الشعر) لأرسطو فأغراني العنوان وأخذت رقم الكتاب إلى أمين المكتبة الذي بادرني بالقول: إن هذا الكتاب صعب عليك فهمه. ومن منطلق العزة بالنفس قلت له: لا أنا أعرف ما أريد. وكنت أظنه يقصد أني لا أفهم الشعر لصغر سني، فلما فتحت الكتاب لم أجد فيه أيَّ قصيدة. ووجدته يتحدث عن أشياء لا أفهم منها شيئا، فأصبت بخيبة أمل، بيد أني خفت أن أتهم بالجهل إذا ما أعدت الكتاب أو أبدلته بغيره من دون أن أقرؤه، فرحت أقرأ فيه مرغما ولم أخرج منه بشيء.
ومثل هذا الموقف غالبا ما يواجه الكثيرين، ليس لأنهم مثلي لم تنضج أدواتهم المعرفية بعد، بل ربما لأنهم عندما يقرؤون لكاتب معروف نتاجا تافها يضطرهم لمعان الاسم لكيل المديح والثناء لذلك المنتج التافه؛ خوفا من أن يقال أنهم لا يفهمون، مع أن جمال الإبداع لا يرتبط دوما بالأشخاص مهما بلغت شهرتهم، بل قد يأتي مبدع مغمور بما يفوق ما جاء به أديب لامع، وقد يأتي اديب لا مع بما لا يستحق الوقت الذي يهدر في قراءته، ووفقا لهذا المفهوم يمكن أن نستدل بالقول المشهور للإمام علي بن أبي طالب: «الحقُّ لا يُعرف بالرجال، وإنما يُعرف الرجال بالحق، فاعرفْ الحقَّ تعرف أهله».
فلمعان اسم الكاتب لا يعني جودة كل ما يكتبه، وكثير من الكتاب المشهورين انتجوا كتابات لا تستحق أن تذكر أو يشار إليها، غير أن اسم الكاتب المشهور جعل من البعض يفتح لها أبواب التأويل تعسفا، أو وقوعا تحت تأثير (إرهاب التلقي)؛ ليقترح لها عمقاً هي أبعد ما تكون عنه.
ومن موقفي مع كتاب أرسطو و ما أرهبت به نفسي في ذلك الموقف، تعلمت وإن كان بطريقة مغايرة أن لا أخضع ذائقتي أو أكوّن رأيي بناء على لمعان اسم المنتج أو شهرة المنتج، بل لما أجده فيه من قيم جمالية وإبداعية وفقا لأدواتي المعرفية على الأقل، وأجد من يبني آراءه انبهارا بشهرة الأسماء التي يستقي منها وليس لأن تلك الآراء هي الأقرب إلى الصواب، هو نوع من الوقوع تحت تأثير مفهوم (ارهاب التلقي)، وإن عملية التلقي يجب ان تنبني على فكرة الرأي والرأي الآخر، والذي جسده الإمام الشافعي بقوله: «رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ ورأيُ غيري خطأ يحتمل الصواب».